اخر الاخبار

تمهيد:

منذ فجر الاستقلال، لم تعرف الديمقراطية السودانية طريقًا مستقيمًا. فقد تم اختطافها مبكرًا من قبل تحالف بنيوي جمع بين الاستعمار، والطائفية، والبرجوازية الصغيرة النفعية، والمؤسسة العسكرية. ولم تكن الأحزاب الكبرى مثل "الأمة" و"الاتحادي الديمقراطي" تعبيرًا عن قوى اجتماعية صاعدة ذات مشروع وطني، بل كانت امتدادًا لزعامات دينية ما قبل حداثية، تحالفت مع الاستعمار وتواطأت مع العسكر، وشكلت غطاءً سياسيًا لاستمرار البنى التقليدية والطبقية، على حساب المأسسة والتحديث.

  1. مفهوم الحزب السياسي وشروطه:

الحزب السياسي، وفقًا للتعريف الماركسي، هو أداة تنظيم ووعي طبقي، يُعبّر عن مصالح فئة اجتماعية محددة، ويعمل ضمن برنامج معلن، يستند إلى قاعدة جماهيرية. بينما كانت الأحزاب الطائفية تفتقر إلى هذه الشروط، معتمدةً على الولاء الشخصي، والرمزية الدينية، والامتيازات الموروثة.

  1. الجذور الاستعمارية للطائفية السياسية:

اتبعت الإدارة البريطانية سياسة "فرِّق تسُد" عبر دعم طائفتي الأنصار والختمية.

تم تمكين هذه الزعامات دينيًا وسياسيًا واقتصاديًا في الريف، ما كرّس نفوذها حتى بعد الاستقلال.

تم تحويل المدارس، والأوقاف، والإدارة الأهلية إلى أدوات تعبئة طائفية.

  1. الطائفية كأداة للهيمنة: من البركة إلى الزعامة السياسية

انتقلت الطائفية من سلطة روحية إلى سلطة سياسية، دون أن تمر عبر شروط الحداثة.

انعدم البرنامج السياسي لصالح الشعارات الغيبية، والولاءات الموروثة.

استخدمت الإدارة الأهلية لتثبيت الحكم المحلي الطائفي، مقابل تقويض المشاركة السياسية الشعبية.

  1. استغلال الدين في السياسة: صعود الإسلام السياسي من رحم الطائفية

مثّل الإخوان المسلمون تطورًا "أيديولوجيًا" للطائفية التقليدية، مع الحفاظ على ذات البنية الاجتماعية.

تحالف الإسلاميون والطائفيون في لحظات حاسمة لتقويض الديمقراطية، مثل تمرير قوانين الشريعة، أو دعم الأنظمة العسكرية.

أُعيد إنتاج الدين كأداة قمع طبقي، بدل أن يكون مرجعية أخلاقية لتحرر الإنسان.

  1. العلاقة العضوية بين الأحزاب الطائفية والعسكر:

تورطت هذه الأحزاب في دعم أو السكوت عن كل الانقلابات العسكرية تقريبًا.

في انقلاب عبود 1958، تم حل البرلمان باتفاق بين العسكر والطائفيين.

في انقلاب النميري 1969، استخدم الإسلاميون الشعارات الدينية للتعبئة ضده، ثم تحالفوا معه لاحقًا.

انقلاب البشير 1989 كان ثمرة تخطيط مشترك بين الجبهة الإسلامية، وبعض مراكز القوى

  1. من البنية الطائفية إلى أدلجة المؤسسة العسكرية: العسكر كحارس للهيمنة الطبقية

لم يكن دعم الأحزاب الطائفية للعسكر مجرد تكتيك سياسي، بل هو تعبير عن وحدة مصالح مادية وأيديولوجية. فالمؤسسة العسكرية، منذ تأسيسها، كانت جزءًا من مشروع الهيمنة، تنحاز دومًا لحماية الامتيازات الطبقية التي تجسدها الطائفية والبرجوازية الصغيرة الطفيلية.

تم إفراغ الدولة من مضامينها التنموية والاجتماعية، وتحويلها إلى جهاز أمني–بيروقراطي لحماية النظام القائم.

تَغذّت المؤسسة العسكرية على الريع، والتحويلات، والتدخلات الأجنبية، مما رسّخ تبعيتها البنيوية لمصالح النُخب الطائفية ورأس المال العالمي.

تمت أدلجة المؤسسة العسكرية عبر خطاب قومي- ديني يُجرّم الاحتجاجات الشعبية، ويُحرم التنظيم النقابي، ويُشيطن الوعي الطبقي.

  1. الطائفية والإسلام السياسي: تناوب على السلطة لا صراع على المشروع.

رغم الخلافات الشكلية، ظل التياران الطائفي والإسلاموي يتناوبان الأدوار في خنق أي أفق ديمقراطي حقيقي.

ففي جوهرهما، يتفقان على:

رفض بناء دولة مدنية حديثة تقوم على المواطنة والمؤسسية.

استخدام الدين كوسيلة للشرعنة لا للتحرر.

إقصاء القوى الثورية، والعمال، والمهمشين من الفعل السياسي.

انقلاب 1989 لم يكن قطيعة، بل ذروة منطق التحالف، حيث وفّرت الطائفية الغطاء الاجتماعي، وقدّمت الجبهة الإسلامية "الأيديولوجيا القمعية" والأدوات التنظيمية للدولة الأمنية.

  1. تفكيك الدولة وترييف المركز: الطائفية كضد للحداثة والديمقراطية

قادت هذه التركيبة إلى إعادة إنتاج دولة فاشلة:

تم ترييف المركز سياسيًا واجتماعيًا لصالح شبكات الولاء الطائفي والقبلي.

تفككت مؤسسات الدولة وتحولت إلى أدوات جباية ومحاصصة ومحسوبية.

حوربت النقابات، وتعرضت الجامعات للتجريف، وتم تدمير البنية الصناعية لصالح اقتصاد طفيلي.

النتيجة: غياب أي مشروع وطني للتنمية، وتآكل العقد الاجتماعي، وانفجار الحروب في الأطراف، التي طالما استخدمتها النخب الطائفية والعسكرية كأوراق تفاوض.

  1. ما بعد الثورة: الثورة المضادة بوجه طائفي-عسكري متجدد

رغم تفجر الوعي الثوري في ديسمبر 2018، أعادت النخب الطائفية والعسكرية تنظيم نفسها:

تم الالتفاف على الثورة عبر شراكة صورية، ضمنت بقاء جهاز الدولة العميقة.

عاد خطاب "الوسطية الطائفية" لتجميل تحالفات قديمة مع الإسلاميين والعسكر.

حُوصرت قوى الثورة الحقيقية، وشُيطنت لجان المقاومة، وتم تجريف المجال السياسي مجددًا.

  1. تفكيك النظام لا تغيير الوجوه.

لا معنى لأي ديمقراطية دون قطيعة مع البنية الطائفية ومؤسسة العسكر، فالمسألة ليست استبدال الجنرال أو الزعيم، بل تفكيك تحالف الهيمنة الطبقية المتجذر في:

الامتيازات الموروثة (الطائفية).

أدوات القمع (العسكر).

الأيديولوجيا الدينية السلطوية (الإسلام السياسي).

إن مهام التحول الديمقراطي في السودان تفرض:

بناء أدوات سياسية جديدة تعبّر عن الطبقة العاملة والمهمشين.

تفكيك اقتصاد الريع، واستعادة الدولة من قبضة العسكر والرأسمالية الطفيلية.

إعادة تعريف المواطنة والدين والدولة على أسس تحررية، مدنية، واجتماعية.