اخر الاخبار

هذا مفكر يهودي آخر يمتلك حسا عاليا بالإنسانية والعدالة، رفض في زمنه إغواء القدوم إلى فلسطين صهيونيا محتلا لأرض الآخرين، إذ أبصر بعين الرؤيوي أن المشروع الصهيوني إلى زوال، لكونه قائما على الإحتلال والعنصرية، وذلك قبل أن تولد المسماة "إسرائيل"، إذ توفي قبل نشوئها، غير أنه اطلع على السطو الصهيوني المتدرج على الأرض، وما رافقه من مآسٍ ومظالم بحق الشعب العربيّ الفلسطيني مالك هذه الأرض. صاحب رؤيا بعيدة وبصيرة ثاقبة كان المفكر والناقد والأديب الألماني الكبير فالتر بنيامين/ Walter Benjamin (1892 ــ 1940)، الذي يعدّ مفكرا انتقائيا جمع شميلة فكره من الماركسية والمثالية الألمانية والتصوف اليهودي "الكابالي"، وبعناصره وخلفياته المتعددة تلك وضع مساهماته المميزة في النقد الأدبي والنظريات الجمالية والفلسفية والتاريخية. اشتغل كناقد أدبي على أعمال بودلير، وغوته، وبروست، وكافكا، وكارل كراوس. ومن أشهر دراساته الفكرية "نقد العنف". ارتبط بصداقة مع برتولت بريخت، وإرنست بلوخ، وزيغفريد كركاور، وغرشوم شولِم. وكان هذا الأخير الأقرب إليه، والأكثر التصاقا به، وقد حاول إقناعه كثيرا بالسفر إلى فلسطين والالتحاق بالمشروع الصهيونيّ، لكن بنيامين ظل يراوغ طوال سنين حتى وفاته منتحرا عام 1940 بسبب عجزه عن الفرار من أوروبا إلى أميركا في الفترة النازية المرعبة. ولمحاولة سفره وفراره تفاصيل مأساوية تُروى.

لم يذهب فالتر بنيامين إلى فلسطين إذاً، متجاهلًا الدعوات المتكررة من صديقه غرشوم شولِم Sholem، الذي هاجر إلى هناك عام 1925. ورغم وضع اليهود الأوروبيين غير المريح في الثلاثينيات، إلا أن فالتر لم يتخل عن قراره بعدم الهجرة إلى فلسطين ضمن المشروع الصهيونيّ المعدّ، إذ تنبّأ قبل تأسيس "الدولة اليهودية" بأنها ستكون دولة عرقيّة قبيحة، رافضا مقولة "الحالة الطارئة" لليهود المضطهدين في أوطانهم الأوروبية، مطلقا على تلك "الحالة الطارئة" صفة الفاشية. ومضى أبعد في تصوراته العميقة متكلما عن الكراهية العنصرية في شكلها الأكثر بدائية الذي تمثّله الصهيونية، وهي كراهية "فيزيكية" (جسدية) للشخص المكروه، أي الإنسان الفلسطيني والعربي في هذه الحالة. ولاحظ باكرا جدا توسّل الصهيونية لـ"معاداة السامية المبتذلة"، بحسب تعبيره، والتي لا تستخدم ضد الأغيار المعادين للصهيونية فحسب، بل أيضا ضد اليهود المعادين للصهيونية، مثله هو، بكونهم "معادين للسامية"! أو "كارهين لأنفسهم"، وأوصاف أخرى من هذا القبيل.

إنّ فهم فالتر بنيامين لطبيعة المشروع الصهيوني مرتبط بفهمه لانتمائه إلى اليهودية دينا وثقافة ونزعة "كابالية" تصوفية لا تؤمن بضرورة "الدولة"، أو "الوطن القومي" لليهود، بل تعدّه مناقضا لجوهر الديانة اليهودية. جمع بنيامين إيمانه اليهودي التصوفي إلى معتقده الأيديولوجي الماركسي على نحو أدهش البعض، وأثار حفيظة البعض الآخر، مشبّها النظرية الماركسية بآلية عمل تشبه لعبة الشطرنج الميكانيكية ذات العتلات والعجلات التي ظهرت للمرة الأولى في البلاط الإمبراطوريّ النمساوي في القرن الثامن عشر، حيث بدا أن حركاتها محكومة بالتشغيل الميكانيكي، ولافتا إلى أن العداوة الحقيقية للنظرية الماركسية هي مع علم اللاهوت، وتمد هذه العداوة الماركسية بقوتها المستقلة الظاهرة، على نحو يحاكي طريقة لاعب الشطرنج الذكي المختبئ داخل خزانة لعبة الشطرنج الآلية. هنا، بالنسبة إلى بنيامين، كان سر المادية التاريخية. فعلى الرغم من معاداتها رسميًا للدين، تواصل استمداد قوتها من المفاهيم الدينية، عبر ترجمة قوتها الكامنة إلى مصطلحات علمانية. صورة آسرة وفريدة، لكنها، مثل العديد من أفكار فالتر بنيامين، تقدم لغزا بدلا من التفسير. كان بنيامين مقتنعا بأن الماركسية فقدت في عصره إمكاناتها الثورية، تحجّرت وتحوّلت إلى عقيدة هامدة وغير تأملية، وصوّرت التقدم أمرا حتميا.

"يُعدّ فالتر بنيامين مفكرا انتقائيا جمع شميلة فكره من الماركسية والمثالية الألمانية والتصوف اليهودي "الكابالي"، وبعناصره وخلفياته المتعددة تلك وضع مساهماته المميزة في النقد الأدبي والنظريات الجمالية والفلسفية والتاريخية"

لم تكن الفكرة الثورية الحقيقية للتاريخ ممكنة، إلّا إذا كسر المادي التاريخي قواعد الماركسية واستورد مفهوما جديدا للزمن من مصدر غير متوقع: علم اللاهوت. مثل اقتحام المسيح للعالم، أضحت كل لحظة في التاريخ عتبة للثورة. بالنسبة إلى فالتر بنيامين، لم يعد اللاهوت وهما يجب تبديده، بل القوة المحركة في النظرية الماركسية، والمورد الضروري، لو عددنا التاريخ مسرحا للاحتمال الثوري.

أثارت محاولة فالتر بنيامين الجمع بين الماركسية واللاهوت جدلا واسعا وانتقادات من الجانبين، الماركسي واللاهوتي، فقد رأى الكاتب المسرحي المتشدد ماركسيا برتولت بريخت أن ولع بنيامين بالتصوف أمر "مروّع"، بينما اتهم مؤرخ التصوف اليهوديّ غرشوم شولِم (المشكك في الماركسية) أن صديقه فالتر يمارس "خداع الذات". ورغم ذلك، جذبت تأملات بنيامين حول الدين والسياسة عددا كبيرا من الأكاديميين، وبعضهم من منطلق أنها تزعزع الافتراضات التقليدية في النظرية الليبرالية حول الحاجة إلى إبقاء الدين والسياسة في مجالات متميزة، وعدم قصرها على النظرية الليبرالية. ويغير تفسير بنيامين أيضا الفهم التقليدي للماركسية بكونها عقيدة علمنة فظّة. بالنسبة إلى بنيامين، الدين لا يتلاشى، ولا يمكن أن يتلاشى، بل يغدو القوة المحركة في المادية التاريخية نفسها. وبعد وفاة فالتر بنيامين، قدم ثيودور أدورنو Adorno هذا الفكر نفسه في صيغة مثيرة للاهتمام: "لن يستمرّ أيّ شيء من المحتوى اللاهوتي من دون أن يتغيّر، وسيتعين على كل محتوى أن يضع نفسه في اختبار الهجرة إلى العالم العلماني، الدنيوي".

يبقى فالتر بنيامين عصيّا على التصنيف، فهو ناقد ثوري لفلسفة التقدم، ومعارض ماركسي للتقدمية، ورجل حنين يحلم بالمستقبل، ومؤيد رومانسي للمادية. مع ذلك، يجب وضعه في سياقه الاجتماعي والتاريخي والثقافي: الثقافة اليهودية في أوروبا الوسطى، الناطقة بالألمانية، في قلب لحظة تاريخية معينة، أي السنوات الثورية بين 1905 و1923 والفترة التي تلتها. في أعمال المفكرين اليهود في أوروبا الوسطى آنذاك (بينهم بنيامين، وبلوخ، وفروم، وآخرون) نرى رابطا بين التقليد المسيحاني اليهودي واليوتوبيا الثورية. علاقة حيوية، متبادلة، متعايشة، حتى الاندماج. بفضل حساسيتها الليبرالية، تقف هذه المدرسة الفكرية على النقيض من الدين السياسي للدولة القومية (أيّ دولة قومية، بما فيها تلك الخاصة باليهود) الذي ترك بصماته على القرن العشرين: حربان عالميتان وتعميم للنموذج الفاشي الشمولي. إن المسيحانية تمثل كل نواحي الاندفاع في الدين اليهودي، لإعادة تأسيس التقليد "الكابالي" الأصلي. ولذلك، ليس مستغربا أن تصبح الإشارة المسيحانية، بمعناها المزدوج الترميميّ والطوباوي، بمثابة شيبوليت (كلمة مرور) لهذا الجيل اليهوديّ الرومانسيّ المنجذب إلى اليسار، لكونه يتضمن العقلانية والتقدم والحرية والمساواة.

لفالتر بنيامين قول بديع يعبّر عن عمق إنسانيته ورهافته: "ما حدث للبشر لا يمكن لأي مستقبل أن يصلحه (...) لا يمكن إلا للضمير الإنساني أن يصبح السلطة الأعلى التي تمكّن من إلغاء الظلم". بالنسبة إليه، الله غائب، والمسيح الوحيد الممكن هو المسيح الجماعيّ: إنه الإنسانية نفسها. ينبغي العثور في الماركسية على معادل لمسألة الفداء. نقرأ له أيضا صورة استعارية رائعة: "هناك لوحة للرسام بول كْلي Klee تصوّر ملاكا على وشك الابتعاد عن شيء يحدق إليه. واسع العينين، فاغر الفم، مفتوح الجناحين. هكذا ينبغي أن يبدو ملاك التاريخ، وجهه ناظر نحو الماضي. وفيما نرى سلسلة حوادث، لا يرى هو إلا كارثة واحدة مستمرة في تراكم الأنقاض فوق الأنقاض عند قدميه. يرغب الملاك في البقاء، وإيقاظ الموتى، وإعادة تجميع ما تمّ تقطيعه. لكن عاصفة تهب من السماء، وتمسك بجناحيه بعنف شديد، بحيث لا يبقى الملاك قادرا على إغلاق جناحيه. تدفعه تلك العاصفة بقوة نحو المستقبل الذي يدير له ظهره، فيما ترتفع كومة الأنقاض أمامه نحو السماء. هل نسمّي تلك العاصفة التقدّم؟". إنّه نص مشهور لفالتر بنيامين اقتُبس وفُسّر مرارا في سياقات متنوعة. لكن هذه الحكاية ــ اللوحة استحوذت على خيال عصرنا، ربما لملامستها شيئا عميقا في أزمة الثقافة الحديثة.

كان بنيامين مفتونًا بالاستعارات الدينية، خاصة تلك الموجودة في الدراما الباروكية الألمانية. إن تناظر الدنيوي للعاصفة في الحكاية السابقة، التي تهب من الجنة، هو التقدم المسؤول عن " كارثة لا هوادة فيها "، وعن كومة الأنقاض تلك (ونحن في عزّ زمن الأنقاض والإبادات) التي ترتفع إلى السماء. ويريد "ملاك التاريخ" أن يتوقف ليضمّد جروح الضحايا الذين سحقتهم جبال الأنقاض، لكن العاصفة تحمله بلا هوادة نحو كوارث جديدة، ومجازر جديدة، أكثر اتساعا وتدميرا. يؤمن بنيامين بالثورة الأخلاقية العميقة لإصلاح مسار التاريخ وإعادة تأسيس "الفردوس المفقود".

بحسب فالتر بنيامين، يظهر الحنين إلى الماضي كطريقة ثورية لنقد الحاضر، وهذا هو التحوّل الرئيسي في التقليد الرومانسيّ، فالهجوم على أيديولوجية التقدّم لا يتم باسم النهج المحافظ المتخلف، بل باسم الثورة. والتشاؤم التاريخي لديه أيضا نشيط وثوري، يتقاطع مع الوعي بالنضال الضروري. ويرى أن مجتمع المستقبل اللا طبقي (الفردوس الجديد، أو المستعاد) ليس عودة خالصة وبسيطة إلى مجتمع ما قبل التاريخ، فهو يحتوي في داخله، كتوليفة جدلية، على ماضي البشرية كاملا. هل التاريخ العالمي الحقيقي، القائم على التذكر العالمي لجميع الضحايا من دون استثناء (المعادل العلماني لقيامة الموتى) ممكن فقط في مجتمع المستقبل اللا طبقي؟ لدى بنيامين، بين الدين والسياسة علاقة عكسية متبادلة تتلافى، أيّ اختزال أحادي الجانب.

غالبا ما يقارن فالتر بنيامين نفسه بالإله الروماني ذي الوجهين جانوس/ Janus، ينظر بأحد وجهيه إلى موسكو (محجّة الماركسية)، وبالوجه الآخر إلى القدس (محجّة الدين)، ما يدل على التناقض الداخلي الذي لازمه فكريا، وعلى الثنائية غير القابلة للاختزال، وتواجه الخيارات غير المتوافقة. لكن الإله جانوس كان ذا وجهين في رأس واحد. هكذا وجها فالتر بنيامين، الماركسي واللاهوتي، التاريخي الثوري والمسيحاني، ليسا سوى تعبير عن فكر واحد، أصيل ومبتكر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

عرض مقالات: