يعتمد العالم في زيادة الإنتاج الزراعي لمحصول الحنطة، كمًّا ونوعًا، على توفير المستلزمات الزراعية الأساسية، وهي: تربة صالحة، ري منتظم، أسمدة بمختلف أنواعها، مبيدات زراعية، والأهم من ذلك البذور الجيدة، حيث تُمثّل نوعية هذه البذور وصنفها الركيزة الأساسية في تحقيق إنتاج وفير وجودة عالية.
في العراق، يتم استنباط الأصناف الملائمة من الحنطة من قبل دوائر الأبحاث الزراعية، حيث تُدرَج في برامج للتجريب والإكثار، يليها نشرها لعدّة مواسم، تخضع خلالها للمراقبة من قِبل جهاز السيطرة النوعية للبذور، سواء في حقول الإنتاج أو بعد الحصاد (كبذور)، وذلك أثناء معالجتها في معامل تنقية البذور الرسمية، لتصل إلى مرحلة الإنتاج الواسع الذي تعتمد عليه الخطة الزراعية في البلاد. ولا تُوزَّع هذه البذور للزراعة إلا بعد اجتيازها اختبارات الفحص، لتُزرَع ثم تُسوّق نواتجها كحبوب إلى سايلوات وزارة التجارة. وهكذا، تستمر دورة إنتاج البذور بالتوازي مع الاستنباط المستمر لأصناف جديدة، وفق برامج مدروسة.
لقد قطع العراق شوطًا كبيرًا في هذا المجال، حيث بدأ مشروع إنتاج وتصديق البذور منذ عام 1968، وضمّ المشروع حقولًا زراعية، ومعامل تنقية، ومختبرات فحص بذور متطورة، إلى جانب كوادر متخصصة في العمل البحثي والإنتاجي، جميعها خاضعة لرقابة جهاز السيطرة النوعية.
وفي هذا السياق، أرى من المناسب أن أُشير إلى بعض أسماء الأصناف المستنبطة والمُعتمدة من الحنطة الناعمة، التي كانت ولا تزال تُزرع محليًا، ومنها:
صنف الحنطة المكسيباك
صنف حنطة أبو غريب
صنف حنطة إباء 99
صنف حنطة بحوث 22
صنف حنطة بحوث 10
صنف حنطة عراق
صنف حنطة بسملة
لم تُسجَّل خلال عقود من نشاط البحث والإنتاج المحلي أيّ شكاوى تتعلّق بنوعية طحين الأصناف العراقية المحسنة، والتي تخضع لفحوصات مشتركة بين دوائر الأبحاث الزراعية وشركة تجارة الحبوب، قبل اعتمادها وتداولها.
ومن هنا، لا أرى من العدل الانتقاص من جهود الباحثين والمزارعين الوطنيين، كما حدث في أحد اللقاءات التلفزيونية حين صرّح ممثل عن تجارة الحبوب بأن: "الدولة تستورد كميات من الحنطة تعادل ما يُنتج محليًا، حتى وإن كان هناك اكتفاء ذاتي، لغرض تحسين ومعالجة نوعية الطحين المحلي!"
وبالاستناد إلى ما تقدّم من معطيات وتجارب وخبرات، أقدّم المقترحات التالية:
أولًا: التخطيط الجاد والمبكر لإنتاج وتصديق بذور الأصناف المحلية المحسّنة.
وينبغي أن يكون هذا التخطيط مشتركًا بين الجهات التالية: الأبحاث الزراعية وشركات إنتاج البذور وجهاز السيطرة النوعية للبذور والإرشاد الزراعي والكفاءات المتخصصة
ثانيًا: على ضوء هذا البرنامج، يجب التوقف عن استيراد الحبوب الأجنبية، ووضع ضوابط صارمة لاستيرادها، بما يقتصر على الحاجة الفعلية (في حالات الطوارئ فقط).
وتنظيم عملية استيراد بذور الحنطة الأجنبية من خلال عدم السماح بإدخال الأصناف التجارية المجهولة التي تُسوّق على أساس إنتاجها العالي فقط، وإيقاف استيرادها بالكامل، إذ إن هذه الأصناف غالبًا ما تتدهور عند إعادة زراعة بذورها.
هذه البذور غزت الأسواق الزراعية وأحدثت خلطًا ميكانيكيًا مع البذور المحلية، مما أفقد الأخيرة خصائصها النوعية والفيزيائية.
وتبيّن أن السبب الرئيسي في تردّي نوعية طحين الحنطة في الأسواق يعود إلى انتشار هذه الأصناف التجارية المستوردة، والتي أصبحت المصدر الأساسي للزراعة والحصاد والنقل والتسويق، مما أثّر سلبًا على سلسلة الإنتاج الغذائي.
ثالثا: تعزيز دور وزارة الزراعة في دعم الجهات البحثية والإنتاجية الوطنية، وتفعيل الدور الرقابي والمسؤول لجهاز السيطرة النوعية للبذور، باعتباره الجهة المخوّلة والموثوقة في الحفاظ على صفات البذور الفيزيائية والنوعية، وذلك من أجل الحفاظ على أحد أهمّ مستلزمات الزراعة الأساسية، وهو البذور الجيدة ذات الصفات الوراثية المستقرة، وتأمين كميات كافية من هذه البذور لتغطية الخطة الزراعية السنوية.
اعتبار هذا العمل واجبًا وطنيًا يصبّ في خدمة الأمن الغذائي، وتطوير الاقتصاد الوطني، من خلال دعم الفلاحين والمزارعين والكادر الزراعي الوطني المخلص.
ــــــــــــــــــ
كادر زراعي مختص