لا يختلف اثنان من العقلاء وأصحاب الضمائر الحية، على اختلاف توجهاتهم، في أن من الواجب الأخلاقي رد الجميل بأحسن منه، أو على الأقل بمثله، فالعلاقة بين الأفراد فضلا عن المجتمعات منذ نشأة الخليقة قائمة على التقدير المتبادل، والإحسان في الرد على المعروف. ولهذا يمكننا ان ندرج العلاقة التربوية بين الاستاذ وطلبته بضمن تلك القاعدة العقلية الاخلاقية البحتة، حيث تتمثل تحية الأستاذ للطالب بكل الجهود التي يبذلها بتفان وأمانة منقطعة النظير، فيما تكون تحية الطالب للأستاذ احترامه وتقديره عبر المنظومة الأخلاقية والقيمية التي يندرج تحتها تنفيذ جميع توجيهاته لأنها بالنتيجة تصب في صالح الطلبة، وبالضرورة يجب أن يكون رد التحية بأحسن منها او بمثلها.
كما أن من الجميل، بل من الضروري، أن يعيش المرء بوجه واحد، وجه يعرفه القريب والبعيد، يطمئن له الصديق، ويحترمه العدو رغما عن أنفه، وجه يعكس جوهر النفس، لا قناعا مرسوما لاجل المصلحة او الخوف او الطمع وحتى لو كان ذلك على حساب الجميع. فالثبات على المبدأ، والعيش بوجه واحد، لا يعني الجمود او الغباء الاجتماعي، بل هو انعكاس للانسجام الداخلي، والنزاهة في التعامل مع الذات والآخرين؛ وكل المواقف اثبتت بأن من يعيش بوجهين، يعيش قلقا يخاف الفضيحة، يرتبك حين تتقاطع طرقه، يتعثر في تناقضاته، اما صاحب الوجه الواحد، فمهما اختلفت الظروف وتبدلت الاحوال، يبقى كما هو صريحا في حبه، نزيها في خصومته، واضحا في مواقفه.
إن ظاهرة الغش في الامتحانات والتي غدت ظاهرة، تندرج في هذا السياق، وتمثل عارا يتسلل خفية إلى قاعات الدراسة، يختبئ خلف النظرات الخجولة، او الخوف والترقب، او الوقاحة واللامبالاة. لكنها في كل الأحوال، جريمة مكتملة الأركان، أمر مؤسف حقيقة، أن تبتلى قاعات الامتحان – التي يجب ان تكون معابد للجد والإنصاف – بتصرفات تجعل من الشهادة سلعة، ومن النجاح حيلة. والأشد مرارة، إن هذا السلوك، يصدر من أولئك الذين، لا تفارق وجوههم علامات التقوى والإيمان تارة، ولا تفارق ألسنتهم مفردات الفضيلة تارة اخرى!
وتكمن خطورة الغش الأكاديمي، في كونه لا يقتصر على كسر قواعد الامتحان، بل يهدم ركنين أساسيين من أركان التعليم، الثقة والعدالة؛ فالثقة التي يبنيها الأستاذ مع طلابه، تنهار حين يكتشف أن البعض استهان بهذه العلاقة، كما أن العدالة تتقوض، حين يمنح من لم يجتهد درجة من تعب غيره، في مخالفة صارخة لكل المبادئ التربوية والأخلاقية.
لقد أظهرت بعض الأبحاث التربوية، أن من أهم أسباب تفشي الغش، هو غياب الوعي الاخلاقي لدى بعض الطلبة، إضافة إلى قلة فاعلية بعض الإجراءات الوقائية، من قبل المؤسسات التعليمية المعنية. لكن هذه الأسباب لا تبرر السلوك، بل تدعونا إلى تعزيز الجهود التربوية، الرامية إلى غرس قيم الأمانة والمسؤولية في نفوس الطلاب منذ المراحل المبكرة.
إن مقاومة الغش لا تكون فقط بالعقوبات الإدارية، بل تبدأ من تعزيز ثقافة النزاهة الاكاديمية وتشجيع السلوك الإيجابي، وتكريم الطلبة المجتهدين، لا فقط المتفوقين رقميا، وهي مسؤولية تضامنية تبدأ من الأسرة، وتمر بالمؤسسة التربوية، وتنتهي بضمير الطالب ذاته. وكما أن المعلم لا ينتظر الشكر على أداء واجبه، فانه لا يستحق الغدر بثقته، وان تحية الاستاذ التي تتجلى في حرصه على الطالب ونجاحه، تستحق ان ترد بتحية مماثلة من اجتهاد واحترام ونزاهة.
لكن، ويا للأسف، فقد تحول الغش، لدى البعض إلى عادة مزمنة تمارس ببرود وجرأة، دون أدنى شعور بالذنب او المسؤولية، مما يشوه صورة الطلبة جميعا، ويحبط معنويات الأساتذة، الذين ما زالوا يؤدون رسالتهم بشرف، آملين في تنمية الوعي بالمسؤولية، لاسيما أولئك الذين لم يبخلوا على طلابهم بشيء، بل عاملوهم كأبنائهم، فتحوا لهم أبواب العلم والمسامحة معا، وأكرموهم بلغة لا تعرف التعالي ولا القسوة، فهل يكون جزاؤهم أن يغدر بهم على يد من لم يحترم وجودهم ولا مقامهم؟! ألم يأن الأوان أن ندرك أن التحية الطيبة، حين تأتي من قامات تربوية شامخة، يجب أن تقابل بما هو أطيب منها، وإلى متى يبقى الطلبة الملتزمون بالأخلاق الرفيعة والنظام الأكاديمي، يدفعون ثمن تصرفات من تنكروا لكل جميل؟
وأخيراً، فإن من تسول له نفسه ان يسرق علماً ليس من حقه، يفقد ثقة الجميع به، إنه لا يغش أستاذه، بل يغش مستقبله، فالشهادة التي تبنى على الغش، ليست سوى قنبلة موقوتة، ستنفجر ساعة الإختبار في ميدان العمل.