اخر الاخبار

تحت عنوان " ماذا يحصل لمفهوم (الطبقات) في العراق؟، نشرنا في هذه الصفحة من عدد جريدتنا الصادر يوم الثلاثاء الماضي مقالة للدكتور رعد موسى الجبوري، وفي شأن الموضوع ذاته ننشر اليوم مقالة للدكتور علي طبلة، ينطلق فيها من مقالة الدكتور الجبوري، هادفاً الى "إعادة بناء فهم اكثر دقة للصراع الطبقي في العراق" كما يقول هو في المستهلّ. ويهمنا ان نقول كذلك، اننا في هذه الصفحة نرحب بأية آراء أخرى او مناقشات لمفهوم الطبقات وموضوع الصراع الطبقي في بلادنا، او في خصوص أية قضية أخرى، فكرية او سياسية او سوى ذلك. وبغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع مضمونها.

مدخل نقدي: في التعليق على مقالة رعد موسى الجبوري تُشكّل مقالة “ماذا يحصل لمفهوم الطبقات في العراق؟” مساهمةً مهمة في إعادة فتح النقاش حول التحوّلات الطبقية في العراق الحديث، خاصة في ظل تفكك البنى التقليدية وصعود نظام سياسي ريعي طائفي بعد 2003. ويُحسب للكاتب محاولته الجمع بين العرض التاريخي والفكري، وتشخيصه الدقيق لنشوء طبقة حاكمة هجينة تستند إلى الدولة والريع والنفوذ الطائفي، بدلًا من الإنتاج والعمل.

لكن المقالة، رغم قوتها التوصيفية، تبقى منقوصة من حيث تعميقها المنهجي لنظرية الطبقات، وتحديدها الجذري لطبيعة الاستغلال القائم، كما أنها تتفادى حسم الموقف من القوى الاجتماعية النقيضة لهذه الطبقة. هنا تتدخّل منهجيتنا الماركسية، لا لمجرد إضافة نظرية، بل لإعادة بناء فهم أكثر دقة للصراع الطبقي في العراق، يُميّز بين الشكل الأيديولوجي للهيمنة (الطائفة، الهوية، الزعامة) وبين جوهرها الاقتصادي (السيطرة على أدوات الدولة والريع).

انطلاقًا من هذا، نسعى في بحثنا إلى إعادة صوغ تحليل طبقي ماركسي معاصر، يُجيب على سؤال: من هي الطبقة الحاكمة في العراق فعلًا؟ ومن هم حلفاء التحرر الممكنون؟ وما المهام التاريخية أمام اليسار؟ وذلك عبر أدوات التحليل الجدلي، ونقد المفاهيم السائدة، والاشتباك المباشر مع تشوّهات الخطاب اليساري ذاته.

أولًا: الطبقة كعلاقة لا كتصنيف – إعادة بناء المفهوم

الخطأ الأكثر شيوعًا في الخطاب السائد – بما فيه كثير من الأدبيات اليسارية – هو اختزال مفهوم “الطبقة” إلى فروقات في الدخل، أو أنماط استهلاك، أو درجات من الفقر والغنى. لكن الماركسية لا تنظر إلى الطبقة باعتبارها فئة سوسيولوجية ساكنة، بل باعتبارها بنية علاقات اجتماعية متصارعة في قلب عملية الإنتاج.

بحسب ماركس، تتحدد الطبقة من خلال العلاقة بمكانة الفاعلين في الإنتاج: من يملك وسائل الإنتاج؟ من يبيع قوة عمله؟ من يراكم فائض القيمة؟ من يتحكم بعملية التوزيع؟

“الطبقات ليست نتاج تصنيف إحصائي، بل نتاج علاقة اجتماعية حيّة تقوم على الاستغلال”¹.

هذا المنظور يُتيح لنا تجاوز النقاش الضبابي حول الفئات “الرمادية”، مثل الموظف الثري، أو العامل الذي يمتلك سيارة، فكل هذه ليست جوهر الطبقة بل أعراضها. وهكذا، فإن مفردة “البروليتاريا” لا تشير فقط إلى من لا يملك، بل إلى من يُنتج ولا يملك، إلى من يُستغل اقتصاديًا وإن بدا مرفّهًا شكليًا.

ثانيًا: من الصراع الطائفي إلى الصراع الطبقي المُقنّع

الطبقة الحاكمة في العراق بعد 2003 لا تندرج ضمن “البرجوازية الوطنية”، كما في مراحل تشكل الدول الحديثة، بل أقرب إلى ما يسمّيه سمير أمين “البرجوازية الكومبرادورية التابعة”، التي ترتبط عضويًا بالرأسمال الأجنبي، وتعيش على الريع لا على الإنتاج².

لكن ما يميزها في العراق هو أنها تُغطّي موقعها الطبقي القائم على نهب الريع وتوزيع الغنائم بغطاء هوياتي طائفي. الطائفية هنا ليست مجرّد أيديولوجيا، بل وسيلة لتنظيم السيطرة الطبقية على المجتمع. أي أنها الشكل التاريخي لهيمنة طبقة غير شرعية اقتصادياً.

لقد بُني نظام ما بعد 2003 على مبدأ تقاسم الدولة – وليس المجتمع – بين نخب حزبية وطائفية تمارس وظيفة “التوزيع الريعي”، دون أي ربط بالعمل أو بالإنتاج. ولذلك فإن النقيض التاريخي لهذه البنية ليس “الدولة المدنية” بوصفها مفردة أخلاقية، بل دولة المنتجين، ودولة العدالة التوزيعية.

ثالثًا: تشخيص الطبقة الحاكمة – طغمة ريعية فوق طائفية

بعكس ما تروج له أدبيات المحاصصة، فإن الطبقة الحاكمة اليوم لا تمثّل طوائفها، بل تُخضعها، وهي ليست نتاجًا لصراع اجتماعي داخل الطائفة، بل مشروع سياسي – طبقي مفروض من الخارج، أعاد ترتيب البنية الاجتماعية على نحو يُحوّل الجماعة الطائفية إلى “وحدة توزيع” للامتيازات والمغانم.

هذه الطبقة – وهي طغمة أوليغارشية مالية – تتكوّن من:

  • قادة الأحزاب الطائفية والمليشيات المتحالفة معها.
  • كبار الموظفين المرتبطين بتقاسم الموازنات.
  • رجال أعمال مقاولون مرتبطون بعقود الدولة.
  • شبكة إعلامية – دينية – أمنية تحرس المشروع وتُعيد إنتاج خطابه.

أما أدوات هيمنتها، فهي:

  • التحكم بالوظائف والتعيينات.
  • سرقة الموازنات والعقود الوهمية.
  • تهريب العملة وغسيل الأموال.
  • إنتاج خطاب الكراهية والانقسام الطائفي لتبرير الهيمنة.

رابعًا: أين اليسار؟ أزمة التحليل وأزمة التنظيم

اليسار العراقي، وعلى رأسه الحزب الشيوعي، لم ينجُ من الانزلاق في المأزق ذاته. إذ ساهم، غالبًا بحسن نية، في تبنّي لغة “المكونات”، وركن إلى شعارات عامة مثل “الدولة المدنية” دون تسمية العدو الطبقي، أو الاشتباك الجذري مع بنية المحاصصة³.

الأزمة هنا مزدوجة: أزمة تحليل، وأزمة تنظيم. فبدون وعي طبقي صارم، يصبح العمل السياسي محكومًا بالإدماج داخل نظام هو ذاته مصدر الفساد والنهب. وبدون تنظيم طبقي حقيقي – أي شبكات جماهيرية إنتاجية، عمالية، نسوية، شبابية – يبقى الشيوعيون أسرى الفعل الرمزي أو التحالفات الظرفية مع نخب برجوازية متدينة أو ليبرالية.

خامسًا: المهام التاريخية أمام الشيوعيين واليسار العراقي

أمام اليسار العراقي اليوم مهمة تاريخية: إعادة تأسيس نفسه كأداة للصراع الطبقي، لا كمجرد صوت أخلاقي في نظام مفخخ. وتبدأ هذه المهمة من:

  1. إعادة تعريف الطبقة العاملة العراقية بوصفها كل من يُنتج الثروة ولا يملك وسائل إنتاجها – في المدينة والريف، في المصنع والشارع، في القطاع الرسمي والاقتصاد غير المنظم.
  2. بناء قاعدة اجتماعية متجذرة من الفئات المُفقرة: شباب عاطلين، موظفين بلا امتياز، فلاحين بلا أرض، عمّال بأجر متدنٍ، نساء مهمشات.
  3. تحديد العدو الطبقي بوضوح: الطغمة الطائفية الريعية العميلة المرتبطة بالرأسمال العالمي.
  4. توسيع التحالف الطبقي ليشمل كل المتضررين من نظام المحاصصة – بلا تنازلات نظرية، ولكن بواقعية نضالية.
  5. استعادة أدوات التنظيم القاعدي: النقابات، الجمعيات التعاونية، اللجان المطلبية، الصحافة المستقلة، التعليم الشعبي.

خاتمة: من مفهوم الطبقة إلى استراتيجية التحرر

ما لم يعد اليسار العراقي إلى التحليل الطبقي الجذري، فسيبقى هامشًا في نظام يعيد إنتاج الاستغلال تحت أقنعة جديدة. المطلوب اليوم ليس فقط أن نتحدث عن الفقر، بل أن نُسمي من يُنتجه؛ لا أن نندد بالطائفية، بل أن نُظهر وظيفتها؛ لا أن نتحالف مع ضحايا الريع فقط، بل أن نُعدّهم للسلطة.

الطبقة، في الماركسية، ليست مجرّد فئة مظلومة، بل حامل تاريخي للتغيير. واليسار، إذا ما أدرك موقعه، قد يتحوّل من شاهد على الانحدار، إلى طليعة في الصراع.

ـــــــــــــــ

المراجع (نظام شيكاغو):

  1. ماركس، كارل. رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي. ترجمة فالح عبد الجبار. بيروت: دار الفارابي، 2008.
  2. أمين، سمير. التراكم على الصعيد العالمي. بيروت: دار ابن خلدون، 1973.
  3. عبد الجبار، فالح. الدولة والمجتمع المدني في العراق. بيروت: المركز العربي للأبحاث، 2012.
  4. بطاطو، حنا. العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1992.
  5. عامل، مهدي. في التناقض. بيروت: دار الفارابي، 1980.
  6. وود، إلين ميكسينز. الديمقراطية ضد الرأسمالية. ترجمة مازن كم الماز. بيروت: دار التنوير، 2019.
  7. هوبسباوم، إريك. عصر الثورة. ترجمة فالح عبد الجبار. بيروت: دار الساقي، 1999.