دور التكنولوجيا في التعليم في كل المراحل الدراسية موضوع حيوي، ودراسة تأثيرها على عملية التعليم بعنصريه المعلم والمتعلم هي من وجهة نظري مهمة ضرورية وحساسة وخطيرة في عصرنا الحالي، لأننا لا نعيش في تعاملاتنا اليومية مع ثابت اسمه التكنولوجيا الحديثة وإنما نحن نعاصر اكتشافات واستحداثات وتطبيقات تكنولوجية جديدة يوميا في كل بقعة من كوكبنا بدءا من أعماق المحيطات مرورا بالأرض وصولا إلى الفضاء. التكنولوجيا وتطبيقاتها لم تعد ثابتا لوغاريثميا وإنما أصبحت متغيرا تتطور حلزونيا وأحيانا بطفرات، يكفي هنا ذكر اختراع الذكاء الاصطناعي في السنين الأخيرة.
التكنولوجيا رغم ذكائها الباهر لا تستطيع أن تتسابق مع عقل الإنسان وأن تتفوق عليه، التكنولوجيا لا تستطيع ان تنتصر على مخ ومخيخ العقل البشري ولا تستطيع تحييده أو إقصاءه. وانما تبقى التكنولوجيا على الدوام أسير الفرد، أسير الإنسان الذي خلقته الطبيعة منذ عشرات الآلاف من السنين. هذا الإنسان قام بذكائه الفطري البدائي في تحسين ظروف معيشته البدائية وصنع الأدوات البسيطة من الصخور في العصر الحجري وعمل بجد إلى أن وصل إلى حد المكوث أشهر طوال في أعماق المحيطات على متن غواصات تحمل صواريخ نووية عابرة للقارات، لا بل فتح مكاتب سفرات سياحية لزيارة الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض.
أنا مقتنع بان دور التكنولوجيا في عملية التعليم متعدد الأوجه وهو يمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار حيث يتراوح بين السلب والايجاب. بإمكان التكنولوجيا إلحاق ضرر كبير بعملية التعلم وعرقلة تطورها، وبإمكان التكنولوجيا أيضا أن تلعب دور التعاون مع عملية التعلم ودعمها وصولا إلى العمل المشترك.
الإنسان، كما ذكرت أعلاه، خلقته الطبيعة وهذا الإنسان الواعي قد خلق وابتكر بذكائه علوم التكنولوجيا والأدوات التقنية وبناء على هذه الحقيقة تبقى التكنولوجيا تابعا لمتبوع اسمه الإنسان الواعي الذكي، وهذه التبعية تصب في مصلحة تطور التكنولوجيا.
من المحال أن يقوم التابع (التكنولوجيا (بقيادة المتبوع الذي هو الإنسان، هذا الذي قام بصنعها في عقله وانتجها في ورشات عمل المجتمع البشري ومستمر في تطويرها.
ان منح التكنولوجيا الأولوية في عملية التعليم على حساب الأسلوب الكلاسيكي السائد لحد الآن هو من وجهة نظري إقصاء للطاقات الكامنة المتوفرة عند المتعلمين ويقود في نهاية المطاف إلى جمود الذهن البشري في التفكير الخلاق ودخوله في سبات علمي، وبالنتيجة سيلحق الاذى بالتكنولوجيا نفسها بسبب الشلل الجزئي الذي سيصيب عقل الإنسان الذي في طور التعلم.
نعم، إدخال التكنولوجيا في التعليم وإعطاؤها الأولوية ستعجل من الحصول على مكاسب على المدى القصير لبضعة سنوات، بدءا من الروضة وإلى مرحلة قد تصل منتصف سنين الدراسات التي تسبق مرحلة الدراسة الاكاديمية. في هذه الفترة بالذات يكون مخ المتعلم قد ترهل عن العمل، ترهل عن التفكير وأصبح اتكاليا على التكنولوجيا في إيجاد حلول ومخارج لتمشيه أموره اليومية والناتج النهائي لهذه الحالة هو تخلف التكنولوجيا أيضا على المدى البعيد بسبب تضاؤل القدرات الفكرية للإنسان الصانع للتكنولوجيا وخالقها. نعلم جميعا بأننا كنا متمكنين على حفظ أرقام تلفونات الأهل والأصدقاء حتى لو تجاوز العدد عشرة أرقام او أكثر، اليوم هناك مئات الملايين من البشر وربما أكثر الذين يجهلون او ينسون رقم تلفوناتهم الشخصية.
ما العمل
لدينا هنا في هذا الحوار محوران هما التكنولوجيا والعقل البشري، بتعبير آخر نحن نواجه مهمة تحديد طبيعة ومدى ارتباط التكنولوجيا بالإنسان في عملية التعليم. إن رواد العقلية التجارية وكارتيلات الصناعيين الكبار يسعون إلى زرع بضاعتهم التقنية في قطاع التعليم بغض النظر إلى النتائج التربوية السلبية في مكننة عقل المتعلم، من جهة أخرى نفس هؤلاء الرأسماليون يزرعون التطرف الديني على حساب العلوم الحية ليس في عملية التعليم فقط وإنما في المجتمع قاطبة.
في قناعاتي الشخصية الحل العقلاني الموضوعي والأمثل لطبيعة ترابط هذين المحورين يكمن في استمرار بسط السجاد الأحمر تحت أقدام المتعلمين وفق الأسلوب الكلاسيكي العام المتبع منذ عقود طوال، طبعا مع أخذ الاعتبار الإصلاحات الضرورية التي تستجوبها عملية التعليم الكلاسيكي بين فترة وأخرى. أما التكنولوجيا فمن الضروري الاكتفاء باستغلالها في عملية تعليم التلاميذ لكسب الوقت واختصار المسافة الزمنية للحسابات الرقمية وعدم السماح للتكنولوجيا في الاستحواذ على العقل البشري واغتصابه. لا يصح للمحوريين (التكنولوجيا والتعليم) البقاء على خطين متوازيين، ولا يصح لأحدهما أن يقصي الآخر. إن العلاقة بين الاثنين لا يصح أن تكون تناحرية لأن سيادة التكنولوجية تؤدي بالضرورة إلى الاستغناء عن التفكير وضمور المخ تدريجيا، بالمقابل إقصاء التكنولوجيا كليا عن عملية التعليم يبطئ فترة التعلم ويعقدها وتصل أحيانا حد الملل والقرف وعرضة للسهو. خير مثال جوهري توضيحي هنا هو رسم الخرائط سواء الجغرافية او الجيولوجية التي كان إعدادها سابقا يأخذ من وقت الطالب عدة اسابيع على الأقل، أما الآن تحصل على الخارطة بثوان بعد إدخال المعطيات في الحاسوب، وكذا الحال في إعداد البيانات الإحصائية او نتائج الانتخابات البرلمانية في الدول الأوروبية. حيث يشارك في الانتخابات البرلمانية في النمسا قرابة ستة ملايين ناخب وبعد ساعة من غلق صناديق الاقتراع يتم إعلان النتائج بالتفاصيل الدقيقة وبدقة متناهية بفضل التكنولوجيا. إن التكنولوجيا هنا ساعدت الإنسان في كسب الوقت ولكنها لم تنجز له عملا فكريا عوضا عن مخه.
الخاتمة
إن العلاقة بين المحورين يجب ن تكون جدلية تكاملية حيث مخ المتعلم (الإنسان) هو الذي سينتج من تفكيره الذاتي وسائل استحداث تقنيات جديدة في استخدام التكنولوجيا، وعند التطبيق سيحصل هذا المتعلم على معطيات جديدة تضاف إلى معارفه السابقة، وبذلك يقوم بتطوير تقنيات الأمس التي أصبحت اليوم قديمة. إذن يبقى المتعلم هو الذي يصنع الآلة وهو سيد العلوم، لذا علينا الاهتمام بالتكوين الذاتي للتلاميذ والسماح لهم في المشاركة بعملية التعليم ليس مستمعين فقط حيث يتم تلقينهم، وإنما جعلهم أيضا مستمعين مشاركين في عملية التعليم. ضروري مفاتحة المتعلمين للتعقيب على المادة التي هم بصدد دراستها وتعلمها. أنا اعتبر هذا الاسلوب هو ضروريا ومهما ومفيدا جدا في تطبيق مبدأ ديمقراطية التعلم. إن تطبيقات هذا الأسلوب في عملية التعليم تقود حتما إلى الارتقاء أكثر فأكثر في استخدام العقل البشري لحل المعضلات الفكرية الجبارة ويبعد الانسان من الاتكال على الشريحة الرقيقة الدقيقة للتكنولوجيا.
هناك مشروع بحثي تجريبي عند بعض الخبراء التربويين هنا في النمسا حول أفضل سبل (التعلم)، تتجلى آراؤهم في إعطاء الحرية التامة للتلميذ في اختيار المواد التي يرغب في تعلمها وهو الذي يحدد الأيام والساعات التي يرتئي فيها الحضور إلى المدرسة، بما فيه التعلم ذاتيا في المسكن، هؤلاء التلاميذ خارجون عن المنهاج الوزاري المقرر لأقرانهم. أصحاب هذا المشروع يعتقدون أن متلقي العلوم" المتعلم" في هذه الحالة سيبدع في اكتساب العلوم كما ونوعا وسيساهم أكثر فأكثر في تطوير التكنولوجيا.
مسك الختام: العقل البشري هو الذي يصنع التكنولوجيا - التكنولوجيا عاجزة عن صناعة عقل بشري.