الماركسية منهج علمي للتنبؤ الاجتماعي في مجال عملية التغيير الاجتماعي وفلسفة التاريخ. عندما نتحدث عن العودة إلى ماركس، لا نقصد أن الفكر الماركسي قد تم تجاهله أو دفنه في زوايا النسيان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وفشل النموذج السوفياتي في بناء الاشتراكية. كما لا نتحدث عن الماركسية كمجرد نظرية ولدت في القرن التاسع عشر وانتهت صلاحيتها الآن. وفي الوقت نفسه، فإن مناقشة الماركسية بالنسبة لنا ليست جزءًا من الحنين إلى الماضي أو الدوغمائية أو الرغبة في البقاء في التاريخ.
العودة إلى الماركسية هي جزء من قراءة الواقع المتجدد والعمل المستمر للمستقبل والنضال من أجل تحرر الانسانية والابداع والابتكار، وإنهاء جميع أشكال القمع والاغتراب. من هذا المنظور، فإن الموضوعات الرئيسية التي أشار إليها ماركس وإنجلز ولاحقًا لينين، مثل "رأس المال" و"البيان الشيوعي" و"الأيديولوجيا الألمانية" و"الاغتراب" وغيرها، لم تفقد قوتها وحقيقتها العلمية، ولكن في الوقت نفسه هناك العديد من القضايا الأخرى التي تحتاج إلى بحث عميق وإعادة تقييم نقدي، بطريقة تتلاءم مع جميع تطورات العالم المعاصر، حيث نكمل الآن الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
في عملية هذه المراجعة، لم تفقد الماركسية قيمتها العلمية، بل إن منهج الماركسية نفسه ومبادئ وقوانين الجدلية هي الأساس لمراجعة جميع أفكار ماركس وإنجلز ولينين وجميع المفكرين الماركسيين الذين بحثوا فيها سابقًا. وهكذا، فإن هذا المنهج يفتح الطريق أمام قراءة نقدية مستمرة للمجتمع، بحيث لا يتم تحويله إلى دوغما، بل يصبح قراءة للواقع الاجتماعي بكل أبعاده المتناقضة، كأساس للتنظير الفكري، والعمل الثوري في عملية التغيير الاجتماعي.
أعمال ماركس وإنجلز تعكس تطور الحركة العمالية والمجتمع ككل في عصر النهضة والثورة الصناعية وتناقضات وصراعات القرن التاسع عشر. وبالتالي، فإن تنبؤاتهم حول المستقبل والتغيير الاجتماعي والمفاهيم الفكرية تنبع من واقع ووعي ذلك العصر، وهذا ما أخرج الماركسية من طابع اليوتوبيا وأبقاها في إطار المادية التاريخية.
قراءة التغييرات الاجتماعية والأحداث التاريخية من القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين تكشف الحقيقة التالية: أن تحقيق مفهوم التغيير والتطور الاجتماعي كعملية حيوية ومستمرة تهدف إلى إنهاء استغلال الإنسان وتحقيق مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية، لا يمكن حصره أو تحديده بفترة زمنية محددة. بل إن عمق وجوهر مفهوم التغيير والتطور أوسع وأكثر تعقيدًا وعمقًا، ولا يمكن فهمه بعقلية تقيسه بعدد من السنوات أو العقود، أو تحليله ضمن إطار ميكانيكي مبسط.
لذلك، عندما نتحدث عن العودة إلى الماركسية، لا يمكننا بأي حال العودة إلى ظروف ووعي القرن التاسع عشر، أو إعادة إنتاج مجموعة من النصوص والمصطلحات الفكرية، بهدف التمسك بها دون تمحيص، أو محاولة تطويع الواقع المتغير مع النص الفكري السابق، فهذه الطريقة في التعامل مع الفكر مخالف لمنهج ماركس، الذي يؤكد على تطور الفكر ونظريته بشكل حيوي، بناءً على قراءة جديدة للواقع المتغير. هذا المنهج هو الذي منح القوة العلمية للنظرية الماركسية ولكل المنظرين الماركسيين بعد ماركس، وأنتج مدارس ماركسية جديدة ومتطورة في مجالات الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي والفن... إلخ.
الماركسية نقلت اتجاه التطور التاريخي نحو الاعتماد على إرادة الناس، في إطار نمط وعلاقات إنتاج محددة، نحو مستقبل الحضارة الإنسانية، من اليوتوبيا إلى العلم. ولكي لا تفقد هذه النظرية حيويتها وتظل في تطور مستمر، فإن التجديد والإبداع النظري، بناءً على التغييرات في هذه الظروف، هو مهمة القادة والكوادر والمنظمات الثورية من أحزاب اليسار والشيوعيين.
في أعمال ماركس وإنجلز وأبحاثهم حول المستقبل واتجاهات التطور وتنبؤاتهم حول هذا الموضوع، ركزوا على الخطوط العامة والعريضة للمستقبل، ولم يدخلوا في التفاصيل الدقيقة للنظريات، لأن أي معادلة بدون وجود عناصر الحل والبيانات اللازمة تبقى غير مكتملة. ولهذا أشار لينين إلى أن ماركس لم يعمل على خلق يوتوبيا، ولم يقم بتنبؤات غير مبنية على أساس حول موضوع مجهول.
في كتاب إنجلز "ملاحظات حول نقد الاقتصاد السياسي" (1843)، وهو أول بحث اقتصادي له، والذي يحلل فيه الاقتصاد الرأسمالي وينتقد الاقتصاد السياسي البرجوازي علميًا، يشير إلى موضوع التطور اللامحدود وقوة الإنتاج والعلم وقدرة البشرية على الإنتاج. ويعتقد أنه إذا استخدمت هذه القوة وتطور العلم بوعي لصالح المصلحة العامة، فإن عبء العمل على كاهل البشرية سينخفض.
من هذه المبادئ العامة حول موقف الماركسية من تطور قوى الإنتاج والعلم، يمكن قراءة تطورات الذكاء الاصطناعي اليوم. وهذا الموضوع، الذي سيطر على أدوات الإنتاج في الربع الأول من هذا القرن، سيؤدي إلى تغيير في علاقات الإنتاج. ولكن في عالم لا يزال يكرس التمايز الطبقي، حيث تُستخدم جميع الإنجازات والتطورات في مجال العلم والذكاء الاصطناعي، التي هي نتاج البشرية، لصالح قوى الملكية الخاصة، أي الرأسماليين والشركات والرأسمالية المالية وحملة وجهة حرية اقتصاد السوق الموجهة والمتحكمة من قبل الرأسمالية المالية.
هذه السياسة الرأسمالية لم تخلق فقط دولًا غنية ودولًا فقيرة على المستوى الدولي، بل خلقت أيضًا فقراء ومعدومين داخل الدول الغنية نفسها، بالإضافة إلى الفقر والبطالة وسوء الظروف المعيشية لغالبية البشرية، بينما تتركز الثروة والدخل في أيدي قلة من الاوليكارشية المتسلطة.
رؤية الماركسية لمستقبل الإنسانية وحريتها ترتبط بضرورة تهيئة الظروف الحقيقية للحرية، والتي تتمثل في توجيه وتخصيص أدوات العلم والتقنيات الحديثة والمتطورة للإنتاج لتلبية الاحتياجات الأساسية للإنسان، في مجالات الغذاء والملبس والصحة والتعليم وتوفير السكن واحتياجات الحياة الكريمة الأخرى.
توفير هذه الحقوق المشروعة، كهدف لمستقبل البشرية جمعاء، يتطلب أن تعود ملكية أدوات الإنتاج الرئيسية إلى المجتمع، وليس إلى الرأسماليين.
حيوية الماركسية تعود إلى مجموعة من القضايا المنهجية، بما في ذلك وجهة ماركس وعمله على ألا تتحول أفكاره إلى نصوص مقدسة، وفي الوقت نفسه، ارتباط الماركسية بالحركات الاجتماعية الذي مكن من إبداع فكري مستمر وتأسيس مدارس جديدة في الماركسية.
في الخامس من مايو هذا العام، تمر 207 سنة على ميلاد ماركس، وفي عالم اليوم، لم تتمكن الرأسمالية من زج ماركس في المتاحف أو دفنه في زوايا منسية. فكر ماركس موجود في المجتمع، وهو سلاح الثوار ضد المستغلين، ودليل للإنسانية في طريق الحرية، ورمز نضال الشعوب من أجل التحرر.
يتواجد الفكر الماركسي اليوم في حركات السلام والدفاع عن البيئة والحركات النسوية ومنظمات الدفاع عن حقوق الانسان وفي الحركات الاجتماعية المناضلة ضد الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعي.
ماركس لا يزال بيننا.