اخر الاخبار

يحتل العراق مكانة فريدة على خارطة الحضارات الإنسانية، فهو مهد العديد منها، ويحتضن في ترابه كنوزاً أثرية لا تقدر بثمن، تشهد على قرون من الإنجاز البشري. يُقدر الخبراء أن ما تم اكتشافه من مواقع أثرية وما استخرج منها لا يمثل سوى جزء يسير من الغنى الكامن في باطن الأرض العراقية. ومع هذا الإرث الحضاري الهائل، يواجه العراق تحديات جسيمة في مجال حماية وصون ممتلكاته الثقافية، لا سيما في ظل غياب رؤية واضحة أو خطة وطنية شاملة تُعنى باسترداد الآثار المسروقة، وتطوير المتاحف، وحماية المواقع الأثرية، ومكافحة شبكات التهريب المحلية والدولية بصرامة وفعالية.

تُعد الدول ذات التاريخ والحضارات القديمة، ومنها العراق، من أكثر الدول تضرراً من ظاهرة تهريب الممتلكات الثقافية. وتتجسد هذه الظاهرة في وجود آلاف القطع الأثرية والمخطوطات في متاحف عالمية شهيرة، بالإضافة إلى تلك التي يتم تداولها بشكل غير قانوني في أسواق الفن والآثار العالمية، من خلال شبكات إجرامية منظمة تمتد فروعها إلى دول عديدة، بما في ذلك العراق نفسه، وتتمركز بشكل كبير في أوروبا والولايات المتحدة وبعض الدول الآسيوية. إن استعادة هذه الممتلكات الثقافية إلى موطنها الأصلي يمثل معضلة قانونية وسياسية معقدة تتطلب جهوداً دولية منسقة.

في ضوء هذه التحديات، خاصة في المنطقة العربية التي تعاني من نزاعات وعدم استقرار، تبرز الحاجة الملحة لمراجعة اتفاقية اليونسكو لعام 1970 بشأن التدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية غير المشروع. فرغم أهميتها كأول إطار دولي شامل لمعالجة هذه القضية، إلا أن الاتفاقية تفتقر إلى "الأنياب القانونية الفاعلة" على المستوى الدولي، مما يحد من فعاليتها في استرداد الممتلكات المهربة، خاصة تلك التي نُهبت قبل دخولها حيز النفاذ.

لقد طرحت شخصياً خلال حضوري مؤتمرات دولية متخصصة مقترحات جادة لمراجعة هذه الاتفاقية أو التفاوض على اتفاقية جديدة تحل محلها. وقد حظي هذا المقترح باهتمام وتأييد العديد من الدول المتضررة، مثل مصر وبعض دول الخليج، بالإضافة إلى دول مثل إيطاليا. كما قدمت بولندا استشارات قانونية مهمة في هذا الصدد. وعلى المستوى المحلي، ورغم معارضة وزارة الثقافة آنذاك نتيجة لـ"الجهل المطبق للمسؤول عن ملف الآثار" في حينه، إلا أن وزارة الخارجية العراقية أيدت المقترح. وكان هذا المقترح يركز على الدعوة لعقد مؤتمر دولي في بغداد برعاية اليونسكو، بهدف التوصل إلى "معاهدة بغداد للحفاظ على الممتلكات الثقافية"، والتي من شأنها أن تمنح العراق دوراً ريادياً في هذا المجال الحيوي.

إن التعديلات المطلوبة على اتفاقية اليونسكو لعام 1970، أو مضامين الاتفاقية الجديدة المقترحة، ترتكز على عدة محاور أساسية تهدف إلى تعزيز الإطار القانوني الدولي، وتوسيع نطاق الحماية، وتكثيف التعاون الدولي، ومواجهة التحديات الأمنية والجيوسياسية:

أولاً: تعديل القيود الزمنية في الاتفاقية:

إلغاء الشرط الزمني: تنص الاتفاقية الحالية على عدم إلزامية استرداد الممتلكات المسروقة قبل عام 1970. هذا البند يحرم دولاً مثل العراق ومصر، وأكثر من خمسين دولة أخرى حول العالم، من استعادة آلاف القطع الأثرية التي نُهبت قبل هذا التاريخ، والتي تُعرض اليوم في كبرى المتاحف العالمية أو تباع في المزادات. يقترح تعديل هذا البند ليشمل جميع الممتلكات الثقافية المسروقة، بغض النظر عن تاريخ السرقة. هذا التعديل سيوفر أساساً قانونياً قوياً للمطالبة بآلاف القطع الأثرية التي خرجت من العراق خلال فترات سابقة، سواء بفعل الاحتلال أو التهريب المنظم.

توسيع نطاق "الملكية الثقافية":** يجب أن يشمل تعريف "الملكية الثقافية" بموجب الاتفاقية الجديدة المخطوطات والقطع الأثرية غير المسجلة رسمياً في قوائم الجرد الوطنية، لا سيما تلك التي سُرقت من مواقع أثرية لم تُكتشف بعد. هذا التوسيع ضروري نظراً لغياب السجلات الكاملة للمواقع الأثرية والقطع المستخرجة في العديد من الدول المتضررة، وخاصة في العراق، حيث لا يزال جزء كبير من ثروته الأثرية كامناً في باطن الأرض.

 ثانياً: تعزيز الإطار القانوني الدولي:

 إلزامية الاسترداد:  يجب أن تتحول الاتفاقية من مجرد "إطار توجيهي" أو توصيات غير ملزمة إلى معاهدة دولية ملزمة قانوناً. يتطلب ذلك فرض عقوبات واضحة على الدول التي ترفض التعاون في استعادة الممتلكات المهربة أو التي تتهاون في تطبيق أحكام المعاهدة. هذه العقوبات يمكن أن تكون اقتصادية أو دبلوماسية أو حتى فرض قيود على استعراض الممتلكات الثقافية من هذه الدول في المحافل الدولية.

تبسيط الإجراءات القضائية:  يجب السماح للدول المتضررة برفع دعاوى قضائية مباشرة أمام المحاكم في الدول التي تتواجد بها القطع المهربة، دون الحاجة إلى المرور بإجراءات معقدة وغير فعالة. هذا المبدأ تم تضمينه في اتفاقية "يونيدروا" لعام 1995 بشأن الممتلكات الثقافية المسروقة أو المصدرة بصورة غير مشروعة، والتي تعد أكثر فعالية في هذا الجانب من اتفاقية اليونسكو لعام 1970. دمج هذه الآلية في الاتفاقية الجديدة المقترحة سيسهل بشكل كبير عملية استرداد الممتلكات المسروقة.

 ثالثاً: تعزيز التعاون الدولي والتكنولوجي:

 إنشاء منصة رقمية موحدة:  يُعد إنشاء منصة رقمية دولية موحدة لتوثيق الممتلكات الثقافية المسروقة أمراً حيوياً. تهدف هذه المنصة إلى مطابقة القطع المسروقة مع القطع المعروضة للبيع في المزادات العالمية أو المعروضة في المتاحف الخاصة. يمكن الاعتماد في بناء هذه المنصة على قواعد بيانات موجودة، مثل قاعدة بيانات "الإنتربول" التي تضم حالياً أكثر من 52 ألف عمل فني مسروق. يجب أن تكون هذه المنصة متاحة للدول المتضررة والجهات المعنية الدولية لتسهيل عملية تحديد ومتابعة القطع المهربة.

تدريب الكوادر: يجب توفير برامج تدريبية مكثفة للدول النامية، خاصة تلك التي تعاني من ضعف الإمكانيات في مجال الحفاظ على التراث وتوثيقه. يمكن الاستفادة من التجارب الناجحة في هذا المجال، مثل مشروع "حماية" الذي نفذته مكتبة قطر الوطنية، والذي قدم ورش عمل حول الأدوات القانونية والعملية لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية. تدريب الكوادر المحلية في العراق والدول المتضررة الأخرى على أحدث تقنيات الحفظ والتوثيق سيساهم في بناء قدرات وطنية قادرة على حماية التراث وتوثيقه بشكل فعال.

رابعاً: مواجهة التحديات الجيوسياسية والأمنية:

حماية المواقع الأثرية في مناطق النزاع:  يجب أن تتضمن الاتفاقية الجديدة بنوداً تُلزم الدول بحماية التراث الثقافي خلال فترات النزاع المسلح. يمكن الاستناد في ذلك إلى اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، والتي لم تُفعَّل بشكل كافٍ في دول شهدت نزاعات مؤخراً مثل العراق واليمن وسوريا. يجب أن تتضمن الاتفاقية آليات واضحة لتقييم الأضرار وتقديم المساعدة الدولية لحماية وإعادة تأهيل المواقع المتضررة.

 ملاحقة الشبكات الإجرامية: يتطلب مكافحة تهريب الآثار، الذي يُعد ثالث أكبر نشاط إجرامي عالمي بعد تجارة المخدرات والأسلحة، تعزيز التعاون بين أجهزة إنفاذ القانون الدولية. يجب أن تتضمن الاتفاقية آليات لتبادل المعلومات والتنسيق بين الشرطة والجمارك والجهات القضائية في الدول المختلفة لملاحقة عصابات تهريب الآثار وتفكيك شبكاتها الإجرامية.

 خامساً: تقييم إمكانية اتفاقية جديدة: "معاهدة بغداد للحفاظ على الممتلكات الثقافية"

إن المقترح الذي قدمه كاتب هذا المقال لعقد مؤتمر دولي في بغداد تحت مظلة اليونسكو، بدعوة من الحكومة العراقية، يمثل فرصة تاريخية لإعادة صياغة الإطار القانوني الدولي لحماية الممتلكات الثقافية. هذا المؤتمر يجب أن يجمع الدول المتضررة (كالعراق، مصر، اليمن، وأكثر من خمسين دولة أخرى) والدول التي تعتبر مستفيدة من وجود هذه الممتلكات لديها (مثل دول أوروبا، أمريكا، واليابان)، بهدف إعادة التفاوض على بنود المعاهدة الجديدة لضمان تحقيق العدالة والإنصاف.

الاتفاقية الجديدة يجب أن تكون بديلاً كاملاً عن اتفاقيتي 1970 و1995، مع التركيز على معالجة الثغرات ونقاط الضعف. يجب أن تركز "معاهدة بغداد للحفاظ على الممتلكات الثقافية" على النقاط التالية:

إعادة القطع المسروقة قبل عام 1970: هذا هو البند الأكثر أهمية للدول المتضررة. يجب أن تنص المعاهدة بوضوح على إلزامية إعادة القطع المسروقة قبل هذا التاريخ.

حظر تداول القطع غير الموثقة:

يجب حظر تداول وملكية وحيازة وشراء أو بيع أي قطعة أثرية أو ثقافية لا يمكن إثبات مصدرها الشرعي وتسجيلها في السجلات الوطنية للبلدان الأصلية ونزع القيمة التجارية لها.  

 فرض غرامات وتعويضات:

يجب فرض غرامات مالية على المتاحف والمؤسسات التي تثبت حيازتها لقطع مهربة بشكل غير شرعي. كما يجب المطالبة بتعويض مادي عن المراحل الزمنية السابقة لدخول الاتفاقية حيز النفاذ، نظراً للاستفادة المادية والمعنوية التي حققتها هذه المؤسسات من عرض هذه القطع.

يجب الاتفاق على آلية واضحة لتحديد حجم التعويضات وتوزيعها.

إن العراق، بتاريخه وحضاراته الغنية، مؤهل لأن يكون في طليعة الدول التي تسعى لتعزيز الإطار القانوني الدولي لحماية الممتلكات الثقافية. وإن عقد مؤتمر دولي في بغداد، كما هو مقترح هنا، سيكون بمثابة رسالة قوية للمجتمع الدولي حول عزم العراق على استعادة تراثه المسلوب، وسيوفر منصة للتفاوض على معاهدة دولية أكثر فعالية وعدالة، تضمن حماية الممتلكات الثقافية للإنسانية جمعاء. علماً إن تحقيق هذه الأهداف يتطلب أيضاً جهوداً داخلية حثيثة من قبل الحكومة العراقية لتطوير رؤية واضحة، ووضع خطط وطنية فعالة لحماية المواقع الأثرية، وبناء المتاحف الحديثة، وتدريب الكوادر المتخصصة، وتطبيق القانون بصرامة ضد شبكات التهريب المحلية.

إن حماية واسترداد الممتلكات الثقافية العراقية ليست مجرد قضية قانونية أو سياسية، بل هي واجب وطني وإنساني للحفاظ على جزء لا يتجزأ من تاريخ العراق والإرث الحضاري العالمي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الممتلكات الثقافية: تشير إلى العناصر المادية والمعنوية التي تُعتبر ذات قيمة ثقافية أو تاريخية أو فنية أو علمية لمجتمع ما أو أمة أو للإنسانية جمعاء.

.مستشار سابق في رئاسة ومجلس الوزراء. متقاعد حاليآ.