مقدمة
المحاسبة ليست مجرد نظام تقني لحصر البيانات المالية، بل هي علم اجتماعي يتأثر بالبيئة الاقتصادية والسياسية، ويتطور وفق متغيراتها.
وبما أن الفلسفة تقدم الأطر الفكرية العامة التي تفسر الظواهر والتطورات، فإن قوانين الجدل الفلسفية (الديالكتيك) تمثل أداة تحليلية عميقة لفهم تطور المفاهيم المحاسبية والتغيرات التي تطرأ على معاييرها وأسسها.
يرتكز الجدل الفلسفي على ثلاثة قوانين رئيسية: قانون وحدة وصراع الأضداد، قانون تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات نوعية، وقانون نفي النفي.
ويمكن لهذه القوانين أن تفسر كيفية نشوء وتطور الفكر المحاسبي، وتغير المعايير المحاسبية وفق احتياجات المجتمع ومتطلبات السوق.
أولاً: قانون وحدة وصراع الأضداد في المحاسبة
مفهوم القانون
ينص هذا القانون على أن كل ظاهرة تحتوي على تناقضات داخلية، وأن هذه التناقضات هي القوة الدافعة للتطور والتغيير.
بمعنى آخر، فإن التطور يحدث من خلال الصراع بين الأضداد داخل النظام نفسه.
التطبيق في المحاسبة
في المحاسبة، يمكن ملاحظة تطبيق هذا القانون من خلال الصراع بين المبادئ المحاسبية التقليدية والمفاهيم الحديثة. على سبيل المثال:
- الصراع بين التكلفة التاريخية والقيمة العادلة: لفترة طويلة، اعتمدت المحاسبة على مبدأ التكلفة التاريخية كأساس لتقييم الأصول، ولكن مع تطور الأسواق المالية وزيادة الحاجة إلى معلومات مالية تعكس القيمة الفعلية للأصول، برزت القيمة العادلة كمفهوم محاسبي حديث.
هنا، نرى صراعًا بين مفهومين متناقضين داخل الفكر المحاسبي، مما أدى إلى ظهور معايير جديدة مثل معيار IFRS 13 الذي يحدد كيفية قياس القيمة العادلة.
- التعارض بين التحفظ والمقاربة العادلة: تقليديًا، كانت المحاسبة تتبنى مبدأ التحفظ (الحذر)، والذي يقضي بتسجيل الخسائر المحتملة وعدم الاعتراف بالأرباح إلا بعد تحققها، إلا أن تطور الأسواق المالية الحديثة استدعى وجود تقارير مالية أكثر حيادية تعكس الوضع المالي الحقيقي، مما أدى إلى تعديل هذا النهج في بعض المعايير الحديثة.
ثانياً: قانون تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات نوعية
مفهوم القانون
يشير هذا القانون إلى أن التغيرات التدريجية الصغيرة تتراكم بمرور الوقت، وعند بلوغ نقطة معينة، تؤدي إلى تحول جذري في الظاهرة.
التطبيق في المحاسبة
يمكن رؤية هذا القانون بوضوح في تطور نظم ومعايير المحاسبة على مر الزمن، حيث أن التعديلات التدريجية في القوانين والمعايير المحاسبية قد أدت إلى تغيرات جذرية في الممارسات المحاسبية.
ومن أمثلة ذلك:
- تطور معايير المحاسبة الدولية: بدأت المعايير المحاسبية كإرشادات محلية لكل دولة، لكن مع ازدياد العولمة الاقتصادية، أصبحت هناك حاجة إلى معايير موحدة على المستوى الدولي. هذا التطور التدريجي أدى إلى ظهور المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS)، والتي أصبحت الآن المعيار العالمي الأساسي للتقارير المالية.
- الانتقال من المحاسبة الورقية إلى المحاسبة الإلكترونية: مع التطور التدريجي في استخدام التكنولوجيا، تحولت المحاسبة من النظام الورقي التقليدي إلى الأنظمة المحاسبية الإلكترونية، مثل استخدام ERP (Enterprise Resource Planning)، مما غير بشكل جذري طريقة إعداد وتحليل البيانات المالية.
ثالثاً: قانون نفي النفي في المحاسبة
مفهوم القانون
يؤكد هذا القانون أن التطور لا يحدث في خط مستقيم، بل عبر دورات متتالية من النفي، حيث يتم تجاوز مرحلة معينة، ثم تعود بعض المفاهيم السابقة ولكن بشكل أكثر تطورًا.
التطبيق في المحاسبة
- عودة مفاهيم المحاسبة الاجتماعية: خلال العقود الماضية، كانت المحاسبة تركز على الجوانب المالية البحتة، ولكن مع تنامي الوعي الاجتماعي، عادت بعض المفاهيم القديمة مثل محاسبة المسؤولية الاجتماعية إلى الظهور ولكن بصياغة حديثة تتناسب مع التحديات المعاصرة.
- إعادة الاعتبار لمحاسبة القيمة العادلة: كانت القيمة العادلة تستخدم في المحاسبة قبل أن يتم استبدالها بمفهوم التكلفة التاريخية بسبب الحاجة إلى الثبات والموضوعية، ولكن مع تطور الأسواق، عادت القيمة العادلة كمعيار أساسي في العديد من المجالات المالية، مثل تقييم الأصول المالية والاستثمارات العقارية.
خاتمة
يتضح مما سبق أن قوانين الجدل الفلسفية توفر إطارًا نظريًا قويًا لفهم التطورات التي يشهدها علم المحاسبة. فالمحاسبة ليست ثابتة، بل هي علم متغير يتأثر بالصراعات الفكرية بين الاتجاهات المختلفة، ويتطور نتيجة للتغيرات التراكمية، كما أن بعض المفاهيم قد يتم تجاوزها ثم تعود مجددًا في سياقات أكثر تطورًا. لذلك، فإن فهم هذه القوانين يساعد المحاسبين والباحثين في تحليل التحولات المستقبلية في هذا المجال، واستشراف الاتجاهات المحاسبية الجديدة التي قد تظهر استجابة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة