اخر الاخبار

قال لي الرفيق المسؤول "ن" إنه سيجلب لي صندوقاً صغيراً مهماً يخص اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية. كان ذلك في رمضان من سنة1973 عندما كنت طالباً في كلية طب البصرة. اتفقنا على أن يجلب الصندوق إلى البيت في موعد الإفطار تماماً حينما تكون الشوارع شبه فارغة.

وقفت أنتظر الرفيق"ن"، وكان مسؤول اللجنة الطلابية، في باب البيت بينما تنشغل العائلة بمائدة الإفطار. لا أحد في الشارع غير بائع خضروات يضع سلة خضروات على رأسه ويصيح بصوت متعب وحزين منادياً على بضاعته. فجأة ظهر عمي درويش في الباب  مستنفراً كعادته. كان قد سمع نداءات الرجل المسكين فقطع إفطاره وخرج يبحث عنه. ظهر في هذه اللحظة الرفيق"ن" على ظهر دراجة هوائية رابطاً على مقعدها الخلفي الصندوق المعني. وقف بدراجته أمام بيت الجيران(بيت العلوية) ووقف ينتظر فراغ الشارع من درويش وبائع المخضرات.

لما عرف درويش بأن الرجل صائم ولم يبع شيئاً يأخذه إلى أولاده في البيت عرض عليه مبلغ دينار مقابل الخضروات. لم يصدق الرجل العرض، لأن مبلغ الدينار كان كبيراً مقابل الخضرة، لكنه وافق في الحال. غاب درويش دقائق معدودات ثم عاد يحمل نفس السلة محملة بالطعام والفواكه، سلمها إلى الرجل ومعها الدينار وطلب منه الذهاب إلى أولاده.

اقترب الرفيق من الباب بعد دخول درويش إلى البيت، وأنزل الصندوق، وكان ثقيلاً، قال إنه سيزورني لاحقاً ليشرح لي أهمية الصندوق، ثم غادر مسرعاً على دراجته. استغربت كيف استطاع "ن" قيادة الدراجة من العشار إلى البصرة القديمة وهو المعروف بمعاناته من مرض في القلب. استغربت أكثر حينما تمكنت، بقدرة قادر، من رفع الصندوق على السلم العالي إلى غرفتي في الطابق الأول من البيت.

كان صندوقاً خشبياً من أبعاد(00X30X301)(عرض وارتفاع وطول) داخله عدة مرايا مستطيلة ومربعة و4 فلورسنات. يجلس لوج زجاجي سميك بمقايس مضبوطة على الفتحة العليا. والصندوق بمزود بغطاء مكسو من الداخل باسفنجة رقيقة.

زارني "ن" بعد أيام في غرفتي وأوضح أن الصندوق عبارة عن جهاز استنساخ بدائي استخدم البلاشفة مثيلاً له في روسيا. يقع عليّ شراء ورق حساس للضوء يباع بالأطوال في محل للقرطاسية في سوق حنا الشيخ، وأن اشتري معه، من نفس المحل، مادة سائلة تتكفل بظهور الكلمات على الورق. وأضاف أن صاحب المحل محسوب علينا وسيبيع الورق لنا دون علم رجال الأمن.

اشتريت المواد المطلوبة حسب الاتفاق، وكان على أن أقطع بكرة الورق الحساس للضوء( جانبها الداخلي الحساس للضوء أصفر اللون) بالمشرط إلى أوراق من حجم(A4) في الظلام، وأن أستخدم قفازات أثناء العمل كي لا أترك بصمات أصابع. لم تكن لدي قفازات فصرت استخدم جواربي كقفازات.

بعد أيام جاءني"ن" ومعه بيان اتحاد الطلبة العام بمناسبة تأسيسه الـ25 وطلب مني استنساخ 100 منه في الأقل. أعدت كتابة البيان على ورق شفاف باستخدام حبر صيني أسود ووضعت شعار الاتحاد في أعلاه. ثبت البيان على اللوح الزجاجي بالمقلوب(كل شيء في الظلام)، ثم وضعت قطعة الورق الحساسة فوقه بالضبط، أغلقت الغطاء على الصندوق ثم أشعلت الفلورسنات. يحول الضوء الورقة الحساسة للضوء إلى لون أبيض عدا عن الحروف المكتوبة بالحبر الأسود. أمرر السائل الكيمياوي على الورق بعدها فتتلون الكلمات الصفراء بالأسود، ثم أترك الورقة كي تجف مثل الخبزة. العملية تستهلك خمس دقائق كل مرة.

وكل مرة، بعد الانتهاء من العمل، كنت أوزع المرايا في غرفتي كديكور، أضع الفلورسنات في زوايا مختلفة، وأملأ الصندوق بالأحذية.

حينما جاء الرفيق يوم 12 نيسان سلمته، وسط دهشته، 400 بيان قلت له إنها طلعت على الفور من"التنور".

يوم 14 نيسان انفرد مسؤول الاتحاد في الكلية بي على جنب، سلمني نسخة من البيان و"جكليته" مهنئاً بتأسيس الاتحاد وقال"يجب أن تشعر بالفخر، لأن الاتحاد ما يزال قادراً على طباعة ونشر بياناته".

استخدمت"مطبعة الاتحاد" عشرات المرات في طباعة البيانات وبطاقات التهنئة. ثم استغلت منظمة الحزب المحلية "المطبعة" أيضاً لطبع بعض المنشورات. ولم يستطع رجال الأمن معرفة سر هذه المطبوعات أبداً.

احتفظ أهلي بغرفتي مقفلة طوال فترة اغترابي، و"صندوق الأحذية" فيها، وكنت أتمنى عرضه يوماً في متحف لتاريخ اتحاد الطلبة العام، لكن صاروخاً إيرانياً لئيماً سقط تماماً سنة1987 على غرفتي وأحال كل شيء فيها إلى رماد.

لم أحضر مؤتمر اتحاد الطلبة في البصرة سنة 1968، لكنني عرفت من الشهيد الشاعر أبو سرحان، والرفيق الراحل جبار فرج، أنهما حضرا هذا المؤتمر الذي أقيم في جامع البجاري في العشار. تم تكليف أبو سرحان بالحراسة في المنارة خشية هجمات رجال الأمن.

مؤتمر الاتحاد في البصرة سنة 1973 عقد في مقبرة النصارى.

عرض مقالات: