عندما كنت طالبًا في مدرستي الإعدادية الجمهورية في الناصرية، كنا نخرج كل يوم بعد انتهاء الدروس لنسير بامتداد شارع الحبوبي لنصل إلى بيوتنا التي تقع في الأحياء على جانبي الشارع (السيف - الشرقية - الصالحية). وذات يوم صيفي لاهب، كان العطش يأخذنا منذ خروجنا من باب المدرسة وأمامنا طريق طويل للوصول إلى البيت. فأخبرني صديقي أن داخل مقر الحزب الشيوعي هناك براد ماء يمكننا أن نشرب منه، فهم لا يمانعون، وهو قد دخل كثيرًا هناك لشرب الماء.
دخلت من باب المقر فانتابني الذهول والرهبة لرؤيتي شيئًا لم أره من قبل: حديقة جميلة في مقدمة المقر، ومن ثم ممر واسع يزينه على جانبيه صور شهداء كثيرة، وطاولة وضعت عليها جرائد عديدة، ومكتبة صغيرة على الجانب تحتوي على الثقافة الجديدة والإصدارات الأخيرة من دور الطباعة. أكملت طريقي، وأنا أرى أمامي قاعة تشبه تلك التي في مدرستنا، كبيرة في نهايتها مسرح، وهناك فرقة من الشباب يتدربون فيها على العروض المسرحية يتوسطهم الدكتور ياسر البراك. وعلى اليمين كان براد الماء. شربنا الماء وعاودنا الخروج، إلا أنه اعترض طريقنا رفيق أنيق الملبس وجميل الشكل (المرحوم أبو فيض) وقال: "هذه نسخ الجريدة لكم، تسليكم في طريق العودة." أخذت الجريدة وهممت بالخروج وأنا أتصفحها، وكانت تلك المرة الأولى التي أقرأ فيها جريدة. العناوين السياسية البارزة، والصور، والمواضيع الأدبية والشعر والمقالات كلها كانت جاذبة طوال طريقي، وأنا أتصفحها. وجدتها ملهمة وتتناول قضايا غير التي كنت أسمعها في التلفاز أو في الشارع. أحببت ذلك المكان جدًا، وأصبح طريقي اليومي هو المرور من خلاله وأخذ نسخة من الجريدة.
بعد أيام قليلة، حدثني زميلي عن اتحاد الطلبة وما هو دوره وأبرز نضالاته، وأفصح لي بأنه عضو فيه، ودعاني للانضمام إليه. وبدون تفكير، وجدت نفسي داخل هذا الاتحاد العريق الذي ينتمي إليه الكثير من الطلبة الشيوعيين. وأصبح الاتحاد المدرسة النضالية الأولى التي أكملت طريقي فيها حتى بعد تخرجي من الجامعة، المحطة التي أضافت لحياتي الكثير من المعاني، أهمها الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين والدفاع عن حقوقهم.
منذ ذلك الحين، أجزم بأنني وُلدت من جديد، فكل ما كان قبله هباءً. وجدت نفسي أمام حياة جديدة لها لذة الشعور بالآخر والدفاع عن المظلوم أمام عائلة كبيرة ومتماسكة، أشعر بأني أحد أبنائها. وفور طلبي استمارة الانتماء للحزب، عارضني والدي وأوصاني بالابتعاد عن التنظيمات السياسية. ذهبت مسرعًا إلى مقر الحزب لأتحدث مع رفاقي الشباب، وأنا بداخلي نار لاهبة بأنني يجب أن أوقع استمارة الانتماء. أشار علي أحدهم قائلاً: "لا تخف، انتمِ سراً ولم يكتشفوا ذلك."
وبالفعل، أكملتها وسلمتها للرفاق. وبعد أيام قليلة، أبلغوني بانعقاد اجتماع. ذهبت إليه مسرعًا وكأن لدي موعدًا غراميًا. لبست أفضل ما لدي وتأنقت، وفي الطريق اشتريت القلم السوفت ودفتر ملاحظات. وما أجمل ذلك الاجتماع! فكنا نتبادل الحديث فيه عن الوضع السياسي وضرورة الاشتراك والتهيئة لمظاهرات يوم الجمعة. وزعنا المهام، ومن ثم توجهنا إلى المقهى في ساحة الحبوبي لنجد مجموعة أخرى من الرفاق، الأساتذة المحترمين، بهيبتهم ووقارهم، جالسين يناقشون استعدادنا للمظاهرات وينادوننا بكلمة "رفيق".
تلك الكلمة التي أزاحت الكثير من الفوارق العمرية والطبقية بيننا، فالشيعيون سواسية بهذه الكلمة، كلنا رفاق الحزب.
هذا الانتماء صقل شخصيتي وأعاد تكوين وعيي السياسي والاجتماعي. فأنا أعتبر أن الحزب عمل على تربيتي وإعادة تأهيلي بالشكل القويم المناسب، ومررت بمحطات كثيرة طيلة تلك الأعوام الإثني عشر، وفي كل محطة أجد الحزب سندًا لي في أحلك الظروف وأقواها، ومساحة عمل مفتوحة أمامي دائمًا تجذبني لأقدم المزيد.
علمني الحزب معنى أن أكون وطنيًا قبل أن أكون شيوعيًا، فالقضايا الوطنية هي الشغل الشاغل للشيوعيين. إلا أنه صار جزءًا مني، وكثيرًا ما ينادوني بالشيوعي أو "حسين الشيوعي"، وأينما أجلس، فورًا تبدأ الأسئلة والنقاشات عن الوضع السياسي ومواقف الحزب، مما يشعرني بمسؤولية الانتماء لهذا الحزب العريق الذي يعتبر عميد الحركة الوطنية التقدمية العراقية.
91 عامًا من النضال والعطاء المجد لشهداء الحزب والحركة الوطنية المجد لكل رفيق شيوعي المجد للذكرى 91