اخر الاخبار

تمر الذكرى 91 لتأسيس أعرق تيار سياسي فكري في العراق ،عام 1934، حيث يعتبر الحزب الشيوعي العراقي "الأب" لكل الحركة الوطنية العراقية، وكانت ولادته ليست محلية كما يظهر من مكان وجودها، بل كانت جزءًا من حركة عالمية نهضت بعد الحرب العالمية الأولى التي استكلبت بها القوى الاستعمارية وتوسعت في تقسيم الشرق وبقية دول العالم، وكان العراق من حصة الدولة الأكثر توغلا في طرائق الاستعمار والاستحواذ على خيراته ومستقبله، وأعني بريطانيا، مما شكل هذا الانتماء المفروض على العراقيين أن يؤسسوا حركاتهم السياسية والفكرية بالضد من الهيمنة الاستعمارية، مستندين إلى الوعي التاريخي والاجتماعي للشعب العراقي وخاصة ما حصل نتيجة 1920 وهزيمة محور الحلفاء في العالم.

دائما عندما نفكر بتجذير النضال الوطني نضع تاريخ تأسيس الحزب الشيوعي فاصلة تاريخية لمرحلة نضوج الحركة الوطنية عمّا سبقها، وكانت هذه الأرضية واحدة من ضرورات استمرار الحزب في وجوده، إلى جوار الأوضاع الداخلية التي تتطلب مواصلة للنضال من أجل طرد المستعمر وحكوماته التي ينصبها على الشعب العراقي.

تعلمت من انتمائي للحزب الشيوعي العراقي منذ عام 1958 ولحد اليوم الكثير من مفردات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي كانت غامضة على الفهم أول الأمر، كنا نعيشها دون أن نحسب ما يدور حولنا ونعتقدها تصورات تنتمي للطفولة، لتلك الصبوات الباحثة عن وجودها.  ومن يسألني كيف أصبحت ناقدًا أعود دائمًا لتلك الصبوات الممتلئة بالأمل واليقظة والمسؤولية، لاستكشف عمق تجربتي التنظيمية فيها، لأجد نفسي غارقًا بقراءة أوراقها والأسئلة التي صاحبتها. فالنواة الأولى لفهم العلاقة مع المجتمع كانت تتم عبر طريقين:

الطريق الأول البحث عن حلول للمشكلات التي تعاني منها مناطقنا في قرى مدينة القرنة، كي يصار إلى بلورة موقف يتشكل وفق آلية العمل المتاح للتنفيذ، وبالفعل كانت هذه أولى المراحل التي فهمت بها أن الحزب يهتم بما يعانيه مجتمع القرى والمدن الصغيرة، ويضع أول الأمر أسئلة عن هذه المعاناة ثم يجري حوارًا ونقاشًا داخليًا لطرح الكيفية التي تتم بها المعالجة، من قبيل افتقار قرانا إلى مركز صحي، وإلى ماء صالح للشرب، وإلى مدرسة ثانوية، وإلى مركز للشرطة، إلخ، فأية مشكلة تحدث كنا نذهب إلى القرنة لعالجتها، في حين يسكن مناطقنا الآلاف من الأسر الفقيرة التي تعاني من الكثير الذي لم يتوفر، وأبسط الأشياء الماء الصالح للشرب.

الطريق الثاني: ما نقترحه بناء على قراءتنا وحواراتنا مع الكتب والآخرين، وهي الصلة التي وفرت أرضية لانتشار تنظيمات الحزب في عموم قرى مدينة القرنة، ومثل هذه الدروس الميدانية لا تجدها إلا في حالة أن تمسك قلمًا ودفترًا وتدوّن بها الأسئلة والأجوبة مع هامش كان المسؤول يقول لنا اكتبوا رأيكم بما يطرح واقترحوا الكيفية التي تتم بها المعالجة. بعد سنوات من الممارسة المتداخلة بين الطريقتين بدأت بالعمل الجاد مع نفسي كقارئ يومي للكتب، وكمتتابع للحياة الشعبية، خاصة الأشعار العامية والأمثال الشعبية والصناعات الشعبية وأنواع الأعمال اليدوية وكيفية القيام بها، فكانت طريقة لأن أحول القراءة إلى أسئلة نقدية عن محتويات الكتب التي اقرأها، وعمّا المسه من مفارقات في حياتنا القروية، ولأول مرة شعرت أن الكتاب هو مجتمع صغير فيه قصص وأشعار يكتبها مؤلفون ويقرأها قراء مختلفون وتتعرض  لمشكلات الناس ومواقفهم، وعلينا أن نفهم أن هذه الكتب هي صور عن الواقع ولكنها ليست الواقع بل رأي الكتاب ومواقفهم بالواقع، ومن هذه الزاوية بدأت حاستي النقدية بالتطور أن ما أقرأه هو واقع آخر يتصوره المؤلف، وأن ما نناضل من أجله هو واقع آخر نفترض أن يحدث بديلًا لبعض مظاهر واقعنا المتخلف، نسأل ونحن نقرأ الآراء ؛ لم لا يكون لنا رأي فيما يقال ويكتب؟ وسط هذا السؤال الكبير والأسئلة الفرعية عنه، نمت عندي حاسة الكتابة، أن تكون مصاحبة لي مع دروس المدرسة التي أعلّم بها وأتعلم منها. وفي الطريق بين البصرة والقرنة، وفي خلواتي في البيت، كان الكتاب رفيقي. وبالفعل كنت عندما أحضر اجتماعًا للخلية اصطحب معي كتابًا وورقة فيها ملاحظات عمّا رأيته وعمّا تصورته وفكرت فيه، أسئلة وأجوبة وطلب قراءة كتب تأتي في سياق التثقيف عن الفلسفة الماركسية والقصص السوفيتية وغيرها.، نعم، كتب في الفلسفة، وليس في غيرها، ولما حصلت على بعضها وبدأت بقراءتها، استصعبت علي الأمور، وغامت الرؤيا، وحدث كما لو أن ضبابًا كثيفًا يغلف قضايا القرية والمدينة. كل شيء كان يسقط على أفكاري كالحجر، فلم أعد بمثل الصفاء الأول الذي كنت اتعامل به مع ما يجري من حولي، ثم تركت قراءة كتب الفلسفة لوقت آخر، وادعيت أنني قرأتها، والحقيقة أني لم افهم ما قرأته فيها حتى عجزت عن مجاراة ما يكتب في هذا الميدان، والسبب هو أنني لم أجد في كتب الفلسفة ما كنت أتأمله من أجوبة. هذا ما خلصت إليه يومذاك.

بعد ثلاث سنوات أي عام 1962 عدت لقراءة الكتب الفلسفية ثانية، الخاصة الكتب الماركسية وجدت نفسي أفهم بعض طروحاتها وليس كلها. مما أتاح لي الأمر أن أحاور أصدقائي بشيء من الخصوصية، ولكني كنت أعجز عن الإجابة عن كيفية دوران الشمس والأرض مثلًا، وعن الحياة في الصخور، وعن التشابه بين الناس والنباتات والحيوانات، وبالرغم من أن ميادين الفلسفة لم تهتم بمثل هذه الجزئيات، فكان الوعي البدائي لمنتم يقرأ ويشتغل معلمًا يفترض أن يتكلم بما لم تطرحه كتب الدراسة. هكذا كان الدرس الأول هو أن نمتلك أعينا عديدة داخل العينين الاثنتين، أعينا تستعيرها من الحياة، ومن المعايشة لحياة القرية، ومن القراءات، ومما يقوله البعض عفو الخاطر. ومن تصوراتنا الذاتية عن الأشياء. فبناء الذات من أهم مكونات المنتمي للحزب، حيث لا تتوقع أن يطورك أحد غير ذاتك..

2

لا تسير الحياة دائمًا على قدم واحدة، كذلك مسار الانتماء للحزب والمواقف الجانبية التي تسبب اضطرابا بالرؤيا والمواقف، إذا لم تطعمها بما يخالفها كي تعرف صوابها من كذبها، لن تجد طعما لحياتك، ومنذ نعومة أظفاري لم اقتنع بسهولة لما يقال لي دون أن أجرب ذلك بنفسي، وبقيت هذه الحال تلازمني إلى اليوم، حيث ترسخت كطريقة عمل منهجي، لا تفقد رأيك الخاص عندما تكون تحت إمرة أحد، ولا تتبنى رأيًا لأحد ما لم تختبره.

تزوجت مبكرًا بعمر تسعة عشر عامًا، لم أفقه من الزواج والتزاماته شيئًا كثيرًا، كنت الوحيد لأبوي، ومنذ ذلك الوقت عرفت أن الحزب مدرسة لا تتعلم فيها كيفية التفكير فقط، بل وكيفية العيش. فلقد كان المسؤول يخصص فقرة في كل اجتماع للسؤال عن الحياة الأسرية لكل واحد منا. كان هذا هو الدرس الثاني من أن بناء أسرة هو من أهم متطلبات العمل الحزبي حيث يكون ظهرك محميًا بما تقول وما تعمل، وكنت من أوائل من اعترض على مسؤول الخلية عندما قال: إذا والدك اعترض على انتمائك للحزب اتركه واخرج عن طاعته، قلت له ومن يسندني في مجال حياتي؟ ونحن نعيش مجتمعًا قرويًا متناقضًا وفيه مشكلات لا تعد ولا تحصى؟ بقي ساكتا، ولم يجب، وإلى اليوم لم يجبني على سؤالي أحد. فالتجارب اللاحقة أكدت صدق رأيي، عندما احتجزت لعشرات المرات وبمدد مختلفة لم يقف معي أحد، وكان ميدان التفكير عليك أن تواجه اختيارك بنفسك، لا أحد يتبرع بالدفاع عنك، لأن الاستدعاءات والتوقيفات لا تسجل في المحاكم، ولذلك عليك أن تكون محاميا لنفسك، ومدافعا عن مواقفك، الانتماء بالرغم من جماعيته، قضية فردية.  فاعتقدت أن ما طرحه المسؤول عن الغاء دو الأب كان رأيًا خاصًا به. نعم بعض المسؤولين يلجأ إلى خبرته الخاصة للتحكم بمسار خليته، وهذا من الأخطاء الشائعة في التنظيم.

تمر السنوات، عليك بتعرجاتها واستقاماتها ودوائرها، وأنت مراقب من قبل الأمن وأجهزة السلطة، ولأنك ابن أسرة لابأس بمستوى معيشتها الجيد، تجد نفسك دائما أمام أسئلة الآخرين، حتى أني كنت أساعد الكثيرين من الطلبة ويساعد أبي بعض المعلمين، بما يمكن ان يسد لهم عوزًا أو يصحح موقفا، فقد كان والدي رحمه الله ميسورا إلى حد ما ضمن وضع القرية وما تنتجه، ولكنه كان يعمل أيضًا في مقاهي البصرة ويملك مقهى، ومسؤولا عن أهم مقهى في العشار" مقهى ساعة سورين" لمالكها الحاج عباس، هذه الحياة مكنتني من الانصراف لقراءة الكتاب، بعدما كان والدي يشتري لي المجلات وهو لم يقرأ ولا يكتب، لكنه تحسس شغفي بالكتاب وكان ذلك أيام الدراسة في المتوسطة ودار المعلمين، هكذا تكون الأسرة رديفًا للموقف السياسي الذي لم يعترض والدي عليه منذ أن سجنت لأيام في عام 1954 وانا طالب في المتوسطة عندما هتفت بسقوط حلف بغداد، فعرف والدي ميولي ولكنه كان يخاف عليّ كثيرا لأني الوحيد له. وبعد سنة من الزواج رزقت بأول ابنة جميلة، احتفل رفاقي بميلادها الأول ونحن في سجن القرنة، فكانت مناسبة عندما جاءت بها أمها لتقول لي أن أيمان صار عمرها سنة.

3

تتجه الحياة أحيانا نحو مواقف لم نخطط لها، وإذا بي أجد نفسي وسط مجموعات من الفنانين والموسيقيين والمسرحيين، كان ذلك في أوائل الستينيات 1965عندما أسسنا فرقًا مسرحية وغنائية في البصرة وكانت مجموعات من الشباب يقودهم عزم حقيقي على تقديم مسرح موسيقي وغنائي ودرامي جديد، هكذا وجدت نفسي داخل مجموعة فنية مثقفة ويسارية. يقف وراءها الحزب الشيوعي العراقي، سعدت حقيقة على هذا الارتباط الذي بدأ بتحويل أفكاري المتجمعة في قاع دماغي إلى ممارسات فنية وثقافية، فكانت تجربة غنية أسهمت مع خبرات فنانين لهم تجربة وتجارب مختلفة في الفنون بإنتاج أوبريت "بيادر خير"، أول أوبريت غنائي درامي موسيقي في العراق كان ذلك عام 1968 وعرض عام 1969 في بغداد لمرتين، ثم توالت الأوبريتات في البصرة وفي بغداد، إلى أن شعرت السلطات الثقافية بأهمية هذه النوع من المسرح، فأصدرت أوامرها بمنعه وتشتيت العاملين فيه.

فكان الدرس الثالث المهم عندما تجد أنك في صف ممتلئ بقدرات فنية وثقافية، فالتجربة أكثر المجالات تعلما من قراءات مفردة. وأن ما تفعله عن طريق الفن قد يكون رؤية سياسية أو ثقافية تعارض بها مواقف السلطة، هذه الدرس العميق جعل الادب والفنون قوة معرفية وسلاحا فكريا بعيد التأثير. وعندما انتقلت إلى بغداد عام 1970 - 1971 عدت للحزب من جديد، وبدأت سلسلة أخرى من الأعمال في الصحافة والتنظيم وخط الأدباء والفنانين. ويمكنني أن أقول إن حياة جديدة بمعنى الكلمة بدأت في المدينة -بغداد- التي ضيقت علي من أول يوم أفقها الواسع، وكنت أحسب ذلك في كل خطوة لي فيها، فأنا ابن القرية ومدينة البصرة المنفتحة بالطيبة والحب والحرية، وجدت نفسي في بيئة بغداد المختلفة غريبا، وغريبا إلى الحد الذي لم أتمكن من فهم الكثير مما يجري، حتى رفاقي كانوا غرباء بالنسبة لي. ولقد أشعرني البعض بأننا نحن أبناء الجنوب سذجًا، ولا نحسب للأمور حسابات أبعد، وبالفعل عانيت من هذه الظاهرة، ظاهرة الآخر الغامض، إلى الحد الذي وصلت به إلى القطيعة مع الكثيرين، فكانت العزلة والعودة إلى الكتاب هي الملاذ الوحيد الذي ينقذك من الأخر المجهول. بغداد لم تكن مدينة للترفيه بل كانت مدينة قاسية بأسئلتها وحياتها وغموضها وسعتها وتنوع ناسها وغرابة ما يحدث فيها أحيانا، ولذلك لجأت إلى الكتابة وإلى المسرح، لأعوض عزلتي بالعلاقة مع الصحافة والنقد.

فالحياة في المدن المتعددة المشارب والقوميات الأديان، لا تنفع كثيرا فيها أن تكون لك خلية من هذا الخليط لتطمئن إلى ما تقول وما تعمل، وكانت بيوتنا ومنها بيتي في مدينة العامل مقرا لاجتماعات خلية كنت اقودها أسبوعيا مما أثار حفيظة الجيران بالشك من أن أهل الجنوب يدخلون الغرباء إلى بيوتهم.

4

الدرس الأعمق عندما تنفتح ذاكرتك على تجارب أخرى، داخلية أو خارجية، تجد بعضا من ذاتك قويًا، ذلك هو ما بقي لي من دروس البصرة بعدم الثقة في كل ما يقال. نعم كنا منتظمين في مدن أو محافظات قلما تلتقي بعضها ببعض، ولكن التجربة التنظيمية تعلمك من خلال الزيارات والقراءات واللقاءات أن ما يحدث في البصرة يحدث في محافظات أخرى، وان ما يحدث في مدن أخرى يحدث في البصرة أو بغداد، عندئذ توسع من مداركك للمواقف وتعمم رؤيتك، ويصبح الموقف الفكري منطلقا من الجزء إلى الكل ثم العودة إلى الجزء لمعاينة خصوصيات المنطقة، هكذا تعلمنا التجربة أن ما يحدث في منطقة ليس خاصًا بها فقط، فقد تجد له أمثلة في غيرها، وأن حلول أية مشكلة يمكن احتذائها لحل مشكلات في مناطق أخرى، فالتداخل بين الجزئي والكلي يعني فهم الأثنين بطريقة علمية واستقصائية وخبرة. درس لا اعتقد أن أي كتاب يقف عليه بتفاصيل ما تعلمنا الخبرة التنظيمية على إدراكه وفهمه.

وعندما يتسع العمل، ويتشعب دورك، وتكلف بمهمات أخرى، وفي ميادين مختلفة، ستتسع مداركك لعملك المنظم بعد أن تكون قد ترجمت الخبرة المتراكمة إلى خطوط عمل، بالرغم من أن الكثير من المسؤولين الحزبين الذي يشرفون على القواعد ليست لديهم خطط منظمة في إدراك أية مشكله وفق تخطيط مدروس لعلاجها، إذ غالبا ما يفرض رأيه أو يكرر ما يقال له، فتصبح الخلية مجرد أجهزة معطلة العقل. هذا كان شائعًا باعتبار المسؤول بإمكانه أن يقول ما لم ندركه نحن الأعضاء البسطاء، وخلال العمل المتنوع اكتشفت أن أي عضو لا يسمع رأيه دائما، الحزب لا يريد مستمعين بل مناقشين ومحاورين وسائلين، ومع الأسف كان بعض المسؤولين يقمع حتى الأسئلة العامة. ويعتبر السؤال ضعفًا في قدرته عن الإجابة. أمور صغيرة قد تبدو عادية ومن مشاركات الحياة اليومية، لكن تراكمها يؤدي إلى غلق لمسارات الأسئلة والحوار، هذا الدرس لا يمكن تلقينه بل يمكن اكتشافه والعمل به وهو وحده الذي يوسع الرؤية لأية قضية تطرح. إن العمل الحزبي ليس فيه انتقال من مرحلة إلى أخرى، فأنت في أية مرحلة عليك أن تكون في المرحلة التي تجمع فيها ما سبقها، يكون التطور بالتراكم والفرز بالامتداد المستقيم والصعود المتعرج، عانينا من الذين جاءوا بعدنا كثيرا فاذا بهم يسبقوننا تنظيميا ويصبحون مشرفين وقوادا لنا، وعندما تسال لا يجاب عن سؤالك، لأن أمورا مثل هذه تخضع لحسابات أخرى، ولكنها كانت غير دقيقة عندما تكتشف الشللية داخل التنظيم والجلسات الليلة المشتركة، والأحاديث الجانبية بنيهم في قضايا تهمك. كل من يفكر أن العمل الحزبي يخلو من النزعات الذاتية لا يفهم تركيبة المجتمع، ثمة قضايا عميقة تجعل أبناء المدينة الواحدة وأبناء المناطق يتضامنون أكثر من بقية الرفاق من مدن أخرى، قد لا تكون هذه ظاهرة عامة، ولكنك تشعر بها.

5

ها أنت الآن خارج الحزب، ولم تعد ذلك الكادر الذي توكل إليه مهمات تنظيمية او ثقافية، فتجد نفسك مسؤولا وأنت غير منتظم، وتحاول أن تفكك هذه العلاقة بالابتعاد أو بالمعارضة لمواقف الحزب، ولكنك في داخلك غير مقتنع لما ستقدم عليه، ولذلك تتردد حتى في طرح الأسئلة على نفسك، شخصيًا أعرف الكثيرين ممن كانوا رفاقًا ثم خرجوا من الحزب لأسباب يرونها مهمة وأساسية، فكانوا يتحدثون عن خلافاتهم ويعتبرون مواقفهم صائبة أكثر من غيرهم، واذا بحث عن السبب لا تجد غير تضخم الذات والاعتزاز بالأخطاء، هذا الدرس لم يطرح في أي اجتماع، ولم يعلم أيضا، ولكنه كان قاسيا عندما يغلب الفرد رأيه على المجموع، صحيح أن الحزب هو اتفاقا حرا بين مناضلين، ولكنه أيضا هو حزمة متضامنة داخليا يجب الّا تتفكك لمجرد أن فردا أو اثنين خالفوا التوجهات العامة. وانت لا تملك حق تخطئة الآخرين في مواقفهم، فالتنظيم الحزبي اختياري يتم بين مناضلين يتفقون على طريقة عمل مشترك في حياتهم، ليس في الانتماء ممارسة أية قوة او ضغط، ما تعمله يمكن ان يكون الشاهد الوحيد على صدق أفكارك وأسلوب حياتك. شخصيا لا أعترض على من يرى أنه عجز عن مواكبة العمل فخرج، ولا اعترض على من وجد خطأً في سياسة الحزب فترك التنظيم، ولا اعترض على من وقف عند حد من حدود التفكير، ولا اعترض على من لم يستطع مواجهة الظروف الصعبة والقاسية التي فرضها العدو عليه، اعتراضي الوحيد هو عدم الدخول في تنظيم آخر مناقض للحزب، هذا الدرس العميق للفكر يجعلنا نفكر دائمًا من أجل اصلاح الأخطاء لا تعميقها بالخروج عليها. واعتراضي الثاني هو أن الشخص الأعلى عليه أن يفكر من الموقع الأدنى، بمعنى أن يتعالى وأن لا يستغل مكانته لحذف آراء الآخرين أن اشعرهم أنهم أدنى منه، اليوم أنت في هذا الموقع وغدا في أدنى منه، ولكن كانت بعض الشلليات تفرض أعضاءها في التنظيم. شخصيًا مررت بمثل هذه الحالات، وطلب مني ان أكون في كذا تنظيم مناقض للحزب، ولكني رفضت ومواقف معروفة لنا بذلك، أن ايماني يفرض علي أن يكون الإصلاح داخليًا قبل أن يكون تشرذمًا أو مواقف ذاتية وبعيدة عن الخبرة والممارسة، أو عزلة، وهو ما سهل للكثير من الذين خرجوا من الحزب ان تناهشتهم انياب الذئاب، بعضهم سقط فأكلته تلك الذئاب والبعض -وهم الكثرة- أثروا الوقوف على الشاطئ وهم يراقبون مجرى تيار الحزب وهو يسير واثقا من طريقته بين شعاب وأرض وجبال ومدن العراق الصعبة والوعرة. دروس لا حدود لها، ولا صفوف تنظمها، ولا أحد يلقنها، ولا مدرسة ببناية تحتويها، هذه الدروس هي تيار هواء الحزب وثقافته ووجوده الذي يراهن الشعب على أدامتها كل عام باحتفالات التي تبدأ من داخل البيوت وتحت أضواء شموع، لتنطلق إلى خارج المدن والقرى لتضيء أرض البلاد وأراض كثيرة في بلدان العالم، مشعلة الأنوار التي ابتدأت في 31 أذار عام 1934 ولم تنطفئ أبدا.

دائما نردد تحية للشيوعيين في عيدهم الذي سيشكل الجزء الأكبر من تاريخ الوطنية العراقية.