اخر الاخبار

قرار البنك المركزي الأخير بخصوص خفض مبلغ التعامل بالعقارات وإلزام المشتري بإيداع مبلغ العقار في المصارف التجارية العراقية اذا تجاوز 100 مليون دينار عراقي، أثار جدالا، ويثير عدة أسئلة وفي مقدمتها الجانب القانوني للقرار، وهل من صلاحيات البنك المركزي اصدار مثل هكذا قرار؟ الجواب، نعم يحق له، والقرار يتناسب مع وظيفة البنك المركزي المحددة بالقانون؛ لأن البنك المركزي مسؤول عن التحكم بالكتلة النقدية التي يصدرها للسيطرة على المستوى العام للأسعار التي هي الوظيفة الأساسية لهذا البنك، ومن ثم له الحق في ان يقوم باجراءات منع استخدامها في معاملات غير قانونية او المضاربات او تزويرها، أو أي نشاط قد ينجم عنه ارتفاع الاسعار في الاقتصاد. وهذا القرار لا يمنع الناس من التصرف في أموالهم كيفما يشاؤون، فهو لم يقيد عملية البيع والشراء بحد ذاتها، ولا يحاول التدخل بملكية اموالهم الشرعية حتى ننظر بقانونية القرار من عدمه؛ فقانونية القرار امر مفروغ منه. لكن السؤال الذي يجب ان يطرح ويحتاج الى إجابة يدور حول مدى فعالية هذا القرار في تحقيق الهدف الاولي منه، وهو الحد من غسل الأموال، او الأهداف الثانوية مثل تقليل الارتفاعات المستمرة في أسعار العقارات - بسبب غسل الأموال - التي من المحتمل أن تمتد الى بقية الأنشطة الاقتصادية، فيتضرر منها المواطن والاقتصاد على حد سواء؟

سنحاول الاجابة على هذا التساؤل، ثم بعد ذلك ننتقل الى الإجابة على سؤال متداخل معه ويشغل بال الناس من وقت صدور القرار، وهو هل هذا القرار سوف يخفض أسعار العقارات؟

نقول في البداية ان هناك ضعفا في صياغة هذا القرار قد تقلل من فعاليته، وهو أنه لم يشمل التدقيق على البائع أيضا اذا كان الغرض منه محاصرة أنشطة غسل الأموال؛ فالمفروض ان يشمل السؤال الطرفين حتى لا يفلت احد من المساءلة. اما مدى فعاليته بصيغته الحالية فتعتمد على القدرة على التكيف مع هذا القرار او الاحتيال عليه بطرق مختلفة اما من خلال زيادة طلب غاسلي الاموال على العقارات الصغيرة المعدة لغرض السكن (نصف القطعة) لاسيما في المناطق الشعبية فينتعش سوقها، وسيتضرر بسبب ذلك المواطن من ذوي الدخل المحدود، وقد ترتفع اثمانها فوق 100 مليون، او يزداد الاتجاه نحو تجزئة العقارات ذات المساحات الكبيرة - التي لا يمكن بيعها بمساحتها الحالية كون اثمانها مرتفعة اضعاف ما ذكره القرار - الى مساحات اصغر فأصغر. وفي كلتا الحالتين سيفلت من يريد غسل أمواله من الرقابة، وسيشتري ما يشاء من تلك العقارات الصغيرة من دون حساب؛ لأن حيثيات القرار تخلو من حصر شراء اكثر من عقار باسم شخص واحد.

كما سيتم الاحتيال عليه بطرق أخرى منها: قيام الشخص بهبة عقاره لشخص اخر ثم يستلم أمواله نقداً من دون ايداعها، او يودع امواله في حسابات في الخارج (مثل تجار المخدرات) ثم يعيد تحويلها بشكل رسمي الى احد المصارف ليس باسمه او حتى باسمه فيشتري بها العقار الذي يريده، ولن يمنعه احد او يحاسبه او يلاحقه حيث انه سيعامل وفقاً لقانون الاستثمار الخارجي. او قد يقوم بإيداعها بأسماء اشخاص عديدين في مصارف عراقية ثم يأتي ليأخذها منهم على شكل دين ويشتري بها العقار الذي يفوق المبلغ المحدد في القرار، ولا احد يمكن ان يحاسبه على ذلك، فلا يوجد قرار نافذ يمنع الناس من الاستدانة. وفي هذه الحالات لن تنزل أسعار العقارات.

كما أن هذا المبلغ حسب الوضع الحالي للسوق لا يشتري سوى نصف بيت (قطعة) امامية (70 مترا) في المناطق الشعبية اما في المناطق غير الشعبية فلن يشتري شيئاً بالمواصفات السابقة، حيث ان سعر اغلبها يفوق 130 مليون دينار. فالتحديد بهذا المبلغ لن يساهم في تخفيض أسعار العقارات؛ لأنه اذا كانت أموال المشتري شرعية فلن يخاف من عملية الإيداع في المصارف وشراء أي عقار.

لكن اذا لم يستطع احد التحايل او التكيف مع هذا القرار فسوف يقل الطلب على شراء العقارات، ما يقود الى التوقف عن بيع وشراء العقارات، لكنها اذا لم تنخفض فأنها على الاقل لن ترتفع. والواقع انها لن تنخفض بشكل كبير ليس فقط نتيجة لمحاربة غسل الأموال بل بسبب النمو السكاني المتزايد، كون صندوق الإسكان ما زال يمنح قروضاً لشراء مساكن مأهولة (لغرض اعمارها) وليس تمويل شراء بيوت او شقق جديدة تم بناؤها حديثاً في مناطق جديدة. اما السبب المهم لانخفاض أسعار العقارات فهو يحدث في حالة واحدة وهي اذا زاد عرض الوحدات السكنية.

ولهذا يمكن القول ان سياسة البنك المركزي هذه ستكون غير فعالة ولن تساهم الا بشكل محدود في محاربة غسل الأموال او خفض أسعار العقارات، بل ان هناك خشية من انها ستعمل على تثبيط قيام القطاع الخاص ببناء وحداث سكنية جديدة اذ لم يجد الطلب الكافي عليها من الجمهور، خاصة اذا كان هناك تدقيق طويل من الجهات المختصة ينتظر المشتري عن مصادر أمواله، وكيف جمعها قبل السماح له بالشراء، فيتجنبون الشراء، وتتعطل حركة البناء، وسيبتعد الناس عن التعامل مع المصارف حذراً من مصادرة أموالهم، ويكون قرار من هذا النوع قد قضى على آخر أمل في حثّ الناس على التعامل مع المصارف.

والحل الأمثل والانجع لمكافحة غسل الأموال الذي يمكن ان يحقق اهدافاً متعددة في آن واحد - ولن يؤثر على رغبة الناس في التعامل مع المصارف - سيكون من خلال متابعة وتدقيق سجل الشخص (يشمل ذلك جميع العراقيين من دون استثناء من 2003 الى اليوم) في دائرة العقاري والربط بين عدد العقارات التي بجوزته او التي يريد أن يشتريها مع مصادر دخله، واذا كان موظفاً ام غير موظف. فاذ كان موظفاً وراتبه محدد فلا يمكن ان يشتري به عقاراً او عدة عقارات ثمنها وقت شرائها يفوق مبلغا معينا (يجري تحديده) فتتم مصادرتها حتى اذا كانوا مسجلين باسم عائلته المقربة مع عدم وجود دليل على مصدر دخل هؤلاء وقت الشراء. وحتى تنجح هذه الخطة والمهمة الشاقة لا بد أن تجري متابعة وتدقيق هذه السجلات من كبار المسؤولين، لتكن مثلاً تحت اشراف وزير التخطيط مع رئيس دائرة غسل الأموال في هيئة النزاهة ونائب محافظ البنك كالمركزي ومدير دائرة التسجيل العقاري، ثم ترفع تقريرها النهائي لرئيس الحكومة ليقوم بتدقيقه مع فريقه مرة أخرى.

ملاحظة أخيرة قبل الختام هي بمثابة نصيحة نقدمها لمن يتولون مناصب إدارية في مؤسسات غير اكاديمية فنقول لهم هي لا حاجة لوضع اللقب العلمي مثل (أ.د = الاستاذ الدكتور) قبل اسمائكم -كما لفت انظارنا ذلك في ذيل نفس هذا القرار- وأنتم تعملون في مؤسسات ذات طبيعة إدارية مثل البنك المركزي، فقد ينظر الناس الى هذا الفعل على أنه عقدة نقص يعاني منها أصحاب المناصب الإدارية يحاولون من خلالها كسب مزيداً من الاحترام والوجاهة من الجمهور مع انهم من أصحاب الدرجات الخاصة التي لا ينالها الا ذو حظ عظيم. ولو لاحظ هؤلاء وقارنوا انفسهم مع من يتولون مناصب في البنك الفيدرالي الأمريكي مثلاً، وهم اغلبهم اكاديميون (رئيسه السابق حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد) سيجدون انهم لم يضعوا قبل أسمائهم أي إشارة حتى الى الشهادة التي يحملونها كونهم موظفين، وعملهم اداري بحت، ولقبهم العلمي تركوه وراءهم في الجامعة التي كانوا يحاضرون فيها او يستعيدونه حينما يذهبون لالقاء محاضرات فيها اثناء عملهم في البنك. كذلك يجب ان يفعل الاخوة أصحاب المناصب عندنا ويمتلكون القاباً علمية، فلا يوجد احد ينكرها عليهم اذا لم يكتبوها مع اسمائهم.

عرض مقالات: