بعد الحروب والصراعات الكبرى، تظهر الحاجة الماسة إلى معالجة التوترات الناتجة عن الانقسامات العميقة بين المجتمعات، والتي يمكن أن تندلع من جديد إذا لم يتم احتواء تلك التوترات. على سبيل المثال، بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية في عام 1865، كانت الولايات المتحدة تواجه تحدياً كبيراً في إعادة دمج الجنود الكونفدراليين والمجتمع الجنوبي الذي خسر الحرب. في ذلك الوقت، كانت هناك رغبة قوية في إيجاد حلول تدفع نحو السلام الاجتماعي والاقتصادي بدلاً من تكريس الانقسامات، ولذلك تم إصدار قرارات بالعفو العام وإنشاء برامج لإعادة دمج الجنود والمجتمعات الجنوبية في الاتحاد. هذه السياسات لم تقتصر على الانتقام أو العزل الجماعي، بل كانت تركز على استعادة الوحدة الوطنية، وتقليل التوترات طويلة الأمد التي قد تعيق إعادة بناء الدولة. وبالتالي، ساعدت هذه الاستراتيجية في تعزيز السلام والاستقرار في البلاد، وأكدت أن العدالة الانتقامية، بشكل مباشر أو غير مباشر، لا تجلب سوى الخراب، وتؤدي إلى استمرار دوامة الحرب.
بين التاريخ والاستغلال السياسي :
لطالما كانت الهوية السورية نسيجًا معقدًا من التنوع الثقافي والطائفي، حيث تتقاطع المصائر الفردية مع المصالح الجمعية بطرق تجعل من الصعب فصل الأفراد عن السياقات التي تحكمهم. ومن هذا التعقيد برزت الطائفة العلوية كمثال حي على المآسي التي تنشأ حين يُزَجُّ بجماعة بأكملها في قلب السياسات السلطوية، فيُختزل وجودها في أدوار محددة، وتتحول من مكون اجتماعي أصيل إلى أداة سياسية تُستغل ثم تُلام على نتائج ذلك الاستغلال.
إنّ الحديث عن «العلوية السياسية» ليس تحليلاً طائفياً بقدر ما هو محاولة لتفكيك معادلة فرضها النظام السوري بقيادة حزب البعث، والتي كان محورها استغلال التركيبة الطائفية لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية. حين تسلم حافظ الأسد السلطة، عمل على توجيه النظام السياسي نحو تعميق الروابط بين حكمه والطائفة العلوية. لم يكن هذا الربط وليد تفضيلٍ للطائفة بقدر ما كان استراتيجية لضمان بقائه، فالنظام استغل هشاشة الواقع الاجتماعي والاقتصادي للطائفة، وأعاد صياغة دورها التاريخي ضمن منظومته الأمنية.
«ليس الانتماء هو الذي يولّد النزاعات، بل الطريقة التي يُوظّف بها ويُستغلّ في أغراض مغايرة لطبيعته»، هكذا يقول أمين معلوف، مشيرًا إلى دور القوى السياسية في تحويل الانتماءات إلى أدوات صراع. وهذا ما حدث في الحالة السورية، حيث جرى تسييس الهوية العلوية لتكون أداة في يد السلطة، محوّلة الطائفة إلى كبش فداء لتبرير السياسات القمعية، مع تحميلها مسؤولية لا تمثلها ولا تنصفها.
منظومة الاستغلال المتبادل :
لكن العلوية السياسية لا تمثل الطائفة العلوية كلها، بل تشير إلى طبقة محدودة داخلها، زُجَّت في المناصب العسكرية والأمنية الحساسة لتكون أداة تنفيذية تخدم استراتيجيات النظام. هذه الطبقة كانت مستفيدة في الظاهر، لكنها في الواقع كانت مقيدة بمنظومة تخضعها، تمامًا كما أخضعت غيرها من مكونات المجتمع السوري. فالنظام لم يبنِ استقراره على العلويين وحدهم، بل اعتمد على شبكة مصالح جمعت بين النخب العسكرية والأمنية، والبرجوازية السنية، والطبقات الدينية التقليدية.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل أن الطائفة العلوية، التي نشأت في بيئة جبلية فقيرة ومهمشة، واجهت ظروفًا اجتماعية واقتصادية قاسية دفعتها إلى البحث عن فرص للنجاة. وجد العديد من أبنائها في الجيش والأجهزة الأمنية ملاذًا، ليس بدافع الولاء السياسي، بل كخيار وحيد متاح في ظل غياب التنمية وفرص العمل. وهنا يظهر كيف أن الفقر والتهميش كانا المحرك الأساسي لهذا الانخراط، لا القناعة السياسية أو الإيديولوجية.
العلوية في قبضة البعث والبرجوازية :
لكن فهم «العلوية السياسية» يتطلب تجاوز الخطاب التقليدي الذي يربط النظام بالطائفة ككل، والاعتراف بأن العلويين، كجماعة، لم يكونوا أكثر من أدوات في يد السلطة. لقد استغل البعث الهامشية التاريخية للطائفة، مستثمرًا في فقرها وموقعها الطبقي لتحويل أبنائها إلى أدوات عسكرية وأمنية. لكن هذا الاستغلال لم يكن منفصلاً عن شبكة أوسع من المصالح الطبقية التي جمعت السلطة بالبرجوازية السنية الدمشقية والحلبية.
هذه البرجوازية، التي تماهت مع النظام في سبيل حماية امتيازاتها الاقتصادية، لعبت دورًا محوريًا في تملق السلطة والتعايش معها. بدلًا من مواجهة استبداد النظام أو الدفاع عن الطبقات الشعبية المهمشة، اختارت البرجوازية الحضرية أن تصبح شريكًا ضمنيًا في القمع، مما ساهم في تعميق الفجوة بين الطوائف، وجعل الطائفة العلوية تبدو وكأنها المستفيد الوحيد، بينما كانت في الحقيقة ضحية للاستغلال الطبقي والسياسي.
كما يشير معلوف: «الهوية لا تقتصر على الانتماء إلى جماعة واحدة، بل هي تراكم لمجموعة انتماءات متعددة». في سوريا، أدى تغييب هذه الفكرة إلى تضييق الهويات المعقدة إلى قوالب طائفية ضيقة، ما مكّن السلطة من استغلال العلويين والبرجوازيات السنية ضمن منظومة واحدة تعمل على قمع الطبقات الفقيرة والهامشية في المجتمع السوري.
العلوية السياسية وسقوطها :
مع تصاعد الأحداث في سوريا منذ عام 2011، بدأ النظام في استنزاف الطائفة العلوية، التي أصبحت تتحمل عبء الصراع الأكبر. دفع آلاف الشباب العلويين حياتهم في معارك كان الهدف منها حماية النظام لا الشعب، مما زاد من مأساة الطائفة نفسها. وفي الوقت ذاته، استُخدمت هذه الطائفة كذريعة في الخطاب الإعلامي لتبرير القمع والانتهاكات.
لكن سقوط العلوية السياسية لا يعني انتهاء التحديات. بل إن اللحظة الراهنة تتطلب قراءة تاريخية واجتماعية شاملة لدور الطائفة داخل المجتمع السوري، بعيدًا عن اختزالها كأداة للنظام أو كبش فداء للصراعات.
مع ذلك، فهذه السياسات لم تُورِط الطائفة العلوية في الدم السوري كما يُشاع، بل كانت طائفة مستهدفة هي الأخرى من خلال تورطيها في مناصب أمنية وعسكرية، بينما بقيت غالبية أبناء الطائفة في مواجهة غريبة مع النظام نفسه.
رفض العزل الاجتماعي والسياسي:
لا يمكن أن يُبنى مشروع سوريا المستقبل على عزل الطائفة العلوية أو التعامل معها ككيان منبوذ. فمثل هذا العزل لن يؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات، وتجديد الشرخ الاجتماعي الذي زرعه النظام. بل يجب أن يتأسس مشروع إعادة البناء على إدراك أن الطائفة العلوية، كبقية المكونات السورية، كانت ضحية استغلال مزدوج: استغلال طبقي فرضه النظام عبر تحويلها إلى أداة سياسية، واستغلال اجتماعي مارسته النخب البرجوازية السنية التي حافظت على مكاسبها بالتماهي مع السلطة.
أي نهج يُقصي العلويين من المشهد الاجتماعي والسياسي سيكون بمثابة إعادة إنتاج لمنطق القمع ذاته الذي مارسه النظام. المطلوب هو مشروع وطني شامل يعيد دمج الطائفة العلوية في النسيج السوري، مع التأكيد على أن هذا الدمج لا يعني التنازل عن محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات.
نحو مشروع وطني جامع
إن معالجة الإرث الذي تركه النظام لا يمكن أن تتم عبر الانتقام أو الإقصاء، بل تحتاج إلى مشروع وطني يرتكز على مبادئ العدالة الانتقالية. يجب أن تكون العدالة شاملة، فتسعى إلى محاسبة الأفراد المتورطين في الجرائم، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية، مع حماية الجماعات من العقاب الجماعي.
كما يقول معلوف: «الإيمان بهوية واحدة، قسرية ومطلقة، يزرع بذور الصراع»، وهذه هي المهمة الكبرى لسوريا المستقبل: أن تتجاوز هوية الصراع إلى هوية المواطنة الجامعة، حيث يُعاد دمج العلويين وغيرهم في مشروع وطني قائم على التعددية والتعايش.
خاتمة
هل يمكن بناء سوريا جديدة دون أن نعيد النظر في جميع الهويات التي شكلتنا؟ وهل يمكننا تحرير أنفسنا من تلك الهويات الطائفية التي فرضها علينا التاريخ، أو أن كل محاولة للهروب منها ستظل محكومة بماضيها، مهما حاولنا التنصل منها؟ أليست الهويات التي نحملها في دواخلنا مجرد بناءات سياسية واجتماعية، عملت القوى المسيطرة على تشكيلها لصالح مصالحها؟ وإذا كانت السلطة قد استغلت تلك الهويات لتقسيمنا، فهل نحن الآن قادرون على تجاوزها أم أننا محكومون بالاستمرار في صراعاتها التي لا تنتهي؟
هل يمكننا أن نحرر أنفسنا من تلك القيود، أم أن التاريخ سيظل حاضرًا في كل خطوة نتخذها، متلازمًا مع كل قرار؟ وهل يمكننا أن نتصور سوريا خالية من تلك الانقسامات التي زرعها النظام، أو أن هذه الانقسامات قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تركيبنا الاجتماعي والسياسي؟ إذا كانت سوريا قد بنيت على أسس من الاستغلال والصراع، فهل نستطيع فعلاً أن نخلق من جديد مشروعًا جامعًا، لا يفرق بين ابن طائفة وأخرى؟
هل تكتمل العدالة حقًا عبر محاسبة الماضي أم أن العدالة الحقيقية تكمن في القدرة على تجاوز ذلك الماضي الذي نحمله، وتشكيل هوية جديدة قائمة على المصالحة والتعايش؟ وكيف نضمن أن هذه المصالحة لن تتحول إلى أداة جديدة للقمع والتهميش؟ أليس في النهاية السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن للبشرية أن تتجاوز التاريخ، أم أن التاريخ هو الذي يتجاوزنا، ويدفعنا بلا توقف نحو مصيرٍ مشترك؟