كتاب “أرض جاهزة للفاشيين” لفارس حرام يقدّم عملاً فكرياً متميزاً في تفكيك ظاهرة الفاشية، ليس فقط كنظام سياسي، بل كمنظومة قيم وسلوكيات تتغلغل في المجتمعات وتعيد إنتاج نفسها بطرق مختلفة. هذا الكتاب أثار إعجابي بشدة بفضل أسلوبه السلس، الذي يجمع بين التحليل العميق والفلسفي مع وضوح الطرح وسهولته. فارس حرام يبرز هنا ككاتب عراقي استثنائي، لديه القدرة على جمع مصادر متنوعة وربطها بسياقات تاريخية وحاضرة، مما يجعل الكتاب تجربة فكرية ممتعة ومثرية في آنٍ واحد.
ما يلفت النظر في الكتاب هو تناوله لقضية المظلومية المشتركة كمدخل للعدالة الحقيقية. يرفض الكاتب الانحصار في مظلومية طائفة أو جماعة واحدة، ويدعو إلى بناء عدالة شاملة تشمل الجميع. هذا الطرح ضروري لفهم العدالة بمعناها الإنساني الشامل، بعيداً عن الانقسامات الطائفية والقومية التي مزّقت المجتمعات. فارس حرام يوضّح أن التركيز على مظلومية فئة معينة يعيد إنتاج الظلم بدلاً من معالجته، مشيراً إلى أهمية إشراك الجميع، بما في ذلك السنة، الشيعة، الأكراد، وغيرهم، في مواجهة الماضي وتأسيس مستقبل عادل.
كما يعرض الكتاب بجرأة تفكيكاً لسمات الفاشية التي يحددها الكاتب بأربعة عشر سمة رئيسية، مثل عبادة التراث، تمجيد الفعل وإقصاء التفكير، تخوين المختلفين، الهوس بالأمن القومي، وتحالف السلطة مع رأس المال. هذه السمات لا تقتصر على الأنظمة التاريخية المعروفة، بل تمتد إلى سياقات جديدة، مثل العراق ما بعد 2003، حيث أعادت الأحزاب والجماعات إنتاج النزعة الاستبدادية بأشكال مختلفة. ما يثير الإعجاب هو قدرة فارس حرام على استحضار التجارب التاريخية، مثل هتلر موسوليني ونظام البعث، لشرح كيفية تحول الخطاب السياسي للحفاظ على السلطة، كما حدث عندما غازل البعث الإسلاميين بعد 1990، أو عندما عقد موسوليني اتفاقاً مع الكنيسة الكاثوليكية رغم خلفيته العلمانية.
الكتاب يذهب أبعد من مجرد الحديث عن رموز الفاشية؛ بل يطرح رؤية عميقة لمحاكمة الاستبداد كمنظومة. يدعو فارس حرام إلى “محاكمة ثقافية” تتجاوز محاكمة الأشخاص إلى محاكمة القيم والأفكار التي أنتجت الاستبداد. هذه المحاكمة الثقافية ترتكز على مفهوم الخير العام المرتبط بالحريات وحقوق الإنسان، وتجمع بين الطابع الجنائي والتاريخي. من جهة، تحمل القادة مسؤولية القصد فيما ارتكبوه من جرائم، ومن جهة أخرى، تفتح نقاشاً مع الجمهور الذي دعمهم أو تأثر بهم، لكشف شبكة القيم والأفكار التي أدت إلى هذه الجرائم.
التجربة العراقية تحتل مساحة كبيرة في الكتاب، حيث يحلل الكاتب استمرارية الاستبداد ما قبل وما بعد 2003. في عهد البعث، كان النظام يعتمد على منظومة قيم قومية استبدادية، لكنها تحولت لاحقاً إلى خطاب إسلامي لاستغلال الدين في خدمة السلطة. بعد سقوط النظام، لم يكن هناك قطيعة مع هذه القيم، بل أعيد إنتاجها عبر الحركات والأحزاب الإسلامية والجماعات المسلحة. الكاتب يتناول هذه الجماعات بالتفصيل، موضحاً كيف استغلت الفقر، قلة التعليم، والتعصب، لتشكيل جيل جديد من الفاشيين الذين يقدسون جماعتهم وقادتهم ويرفضون الآخر تماماً.
ما يجعل هذا الكتاب ضرورة لكل قارئ هو قدرته على ربط الماضي بالحاضر، وتحليله الدقيق لاستمرار القيم الاستبدادية بوجوه مختلفة. فارس حرام لا يكتفي بطرح الأسئلة الصعبة، بل يقدم رؤى شجاعة لكيفية مواجهة الاستبداد، من خلال تفكيك الأفكار التي تدعمه وإعادة بناء القيم على أسس العدالة والحرية. “أرض جاهزة للفاشيين” ليس مجرد كتاب؛ إنه دعوة للتفكير والنقاش حول قضايا مصيرية تتعلق بمستقبل المجتمعات، وخاصة تلك التي تعاني من إرث طويل من الاستبداد.