اخر الاخبار

طالما مثّلت الكاتبة والروائية المكسيكيّة إيلينا بونياتوفسكا (1932) مفارقة استثنائية في المشهد الصحافي والأدبي والسياسي في بلادها، التي توّجتها أخيراً بأرفع جائزة أدبية دوليّة للإبداع باللغة الإسبانية، «جائزة كارلوس فوينتيس»، عن العام الحالي (2023). فهذه السيدة التسعينية التي ما زالت تكتب عموداً أسبوعياً وتتسوق وتطهو لنفسها وتنظف بيتها، تجري في عروقها دماء زرقاء وتنتمي إلى النخبة الأرستقراطية، بحكم انحدارها لجهة والدها الأمير جان جوزيف بونياتوفسكي من سلالة آخر ملوك الكومونويلث الليتواني البولندي، ولجهة والدتها من عائلة مكسيكيّة نافذة. لكنها انحازت، في ما تكتب، إلى العمال والمزارعين والفقراء والمهمشين والمساجين والمتمردين والسكان الأصليين والنساء، حتى لُقبت بـ«الأميرة الحمراء». وبينما بدأت الكتابة في عالم الصحافة قبل سبعين عاماً، إلا أنها لم تتأخر في الانتقال إلى عالم الخيال الأدبي لتصنع اسمها في منطقة التقاطع المتأرجح بين التأريخ والخيال، وبين الوصف الصحافي وشهادات الضحايا/الأبطال، وبين المقابلات والرواية. وعلى الرغم من أنها لم تدخل الجامعات ولم تستحصل على شهادات أكاديميّة، إلا أنها درّست الكتابة الإبداعية طوال عقود، فتتلمذ على يديها جيل كامل من الأدباء والروائيين المعاصرين في المكسيك، ومُنحت درجات دكتوراه فخرية عدة من جامعات راقية في المكسيك والولايات المتحدة، ناهيك عن حصولها على عشرات الجوائز الأدبية، بما فيها «جائزة سرفاتنس للأدب» (2013).

وقد منحت لجنة مشتركة من وزارة الثقافة المكسيكية والجامعة الوطنية المستقلة بونياتوفسكا الجائزة الدولية للإبداع الأدبي باللغة الإسبانية التي أسست لذكرى الكاتب والروائي المكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس (1928-2012) وتعطى سنوياً لكتاب أثروا بمجمل أعمالهم التراث الأدبي للإنسانية، لتكون بذلك رابع امرأة تحوز هذا التكريم الأرفع في أميركا اللاتينية. وفي نيسان الماضي، حصلت بونياتوفسكا أيضاً على أعلى وسام مدني في المكسيك من قبل مجلس الشيوخ في الكونغرس المكسيكي الذي وقف عن بكرة أبيه ليهتف «إيلينا، إيلينا، إيلينا»، تحية لها بينما قُلّدت «ميدالية بيليساريو دومينغيز».

ولدت إيلينا بونياتوفسكا – وهذا اسمها الأدبي بعدما كانت سُميت لدى ولادتها بهيلينا - في باريس بعدما انتقلت أسرة والدتها الفرنسية المولد ماريا دي يتوربي إلى هناك عندما فقدت أملاكها الواسعة من الأراضي مع اندلاع الاضطرابات التي رافقت الثورة المكسيكيّة (1910- 1920) والإطاحة بحكم الرئيس ببورفيريو دياز عام 1911. وقد عادت معها وهي في العاشرة من العمر إلى المكسيك حين اندلعت الحرب العالمية الثانية وسقطت العاصمة الفرنسية بيد الجحافل النازية، فيما بقي والدها في أوروبا للمشاركة في القتال.

كانت بونياتوفسكا في الحادية والعشرين حين بدأت بالكتابة للصحافة باستعارة مادتها من أجواء مجتمعها المخملي، فأجرت مقابلات مع المشاهير كانت أولاها مع السفير الأميركي إلى بلادها، وأهمها مع فيديل كاسترو. ونقلت أخبار طبقة نخبة العاصمة مكسيكو سيتي ومناسبات نجومها. لكنها رويداً رويداً شرعت تستكشف القضايا الاجتماعية والسياسية لبلادها بعدما لمست الفجوة الهائلة بين من يملكون ومن لا يملكون، وتبنت آراء يسارية ما لبثت أن انعكست على شكل كتابتها واختيارها لموضوعاتها، فكان كتابها الأشهر «ليلة تلاتيلولكو» (1971 ــــ تُرجم إلى الإنكليزية بعنوان «مذبحة في المكسيك») الذي دونت فيه لحظة المكسيك الحزينة عندما قمعت ثورة الطلاب اليساريين عام 1968 بمحض القوة. كان إيمانويل، بكرها، قد ولد قبل أربعة أشهر فقط، لكنها لم تتوانَ عن النزول إلى الشوارع لجمع الشهادات بينما كانت الدماء لا تزال على الأرصفة، والأحذية متناثرة، والنساء الملتاعات يبحثن عن أبنائهن الذين لم يعودوا إلى المنزل. وقد نشرت تلك الشهادات في كتاب ذي نص بارع نسجت فيه الحكاية المروعة، بمزيج من التاريخ الرسمي، واللافتات، والكتابات على الجدران، وتقارير الصحافة، وروايات شهود العيان والمخبرين والناجين، مع تأملات شخصية قدرية كئيبة. وبقي كتابها ذاك الوحيد الذي نُشر حول هذا الموضوع في المكسيك مناقضاً رواية السلطة، طوال عقدين كاملين. وقد فعلت الأمر نفسه لاحقاً في كتابها عن زلزال مكسيكو سيتي (1985)، فنشرت شهادات السكان وكشفت انعدام كفاءة الأجهزة الحكومية، وفسادها المؤسس (أصوات الزلزال: حيث لا شيء ولا أحد – 1988)، وكذلك في تغطيتها لثورة الزاباتيين في تشياباس. وقد رشحتها السلطات للفوز بجائزة أدبية حكومية في سبعينيات القرن العشرين، لكنها رفضتها وقالت للرئيس المكسيكي لويس إتشيفاريا ألفاريز - الذي كان وزيراً للداخلية ومسؤولاً عن قوات الأمن خلال أحداث عام 1968 – في رسالة مفتوحة تعلل رفضها: «ومن سيمنح جائزة لأولئك الذين سقطوا في تلاتيلولكو في عام 1968؟». ومع أنها احتفظت دائماً بعلاقات ودية مع والدتها حتى رحيلها، إلا أن الأم الأرستقراطية كانت مستاءة لوصف ابنتها من قبل صديقاتها بالـ«شيوعية»، ورفضت بعناد قراءة الرواية التي كتبتها عن الناشطة اليساريّة تينا مودوتي.

رغم أنها اشتهرت أكثر ما يكون في الصحافة الاستقصائية، نشرت بونياتوفسكا في مختلف الأشكال الأدبية: الرواية، والقصة القصيرة، والشعر، ومقال الرأي وقصص الأطفال، والمسرح، إلا أن متعتها الشخصية ظلت دائماً الكتابة الإبداعية، أولى رواياتها، «ليلوس كيكوسي» (1954)، كانت حول فتاة فضولية يتم تشكيلها بعناية من قبل المجتمع لتصبح عروساً مطيعة. لكن أعمالها نضجت في السبعينيات من القرن الماضي في فضاء التقاطع بين الخيال الأدبي والبناء التاريخي، مستندة إلى شهادات المهمّشين والمضطهدين والمحرومين ممن لا تتسع لهم عادة ثقافة النخب، بداية من زيارة أخذتها إلى سجن شهير في العاصمة لمقابلة عمال السكة الحديد الذين اعتقلوا لمشاركتهم في إضراب عمالي واسع. وقد وجدت حينها في قصص السجناء وحكاياهم مضموناً إنسانياً عميقاً لم تجده يوماً في تغطيتها لحياة النخبة المسطحة وهمومها التافهة، لتتلاحق أعمالها تباعاً في التضامن مع مختلف ضحايا الاضطهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وانتقاد سخافة معايير المجتمع المزدوجة في التعامل مع الجنسين.

انعكس تطورها الفكري على مزاجها الأسلوبي، فتحررت لغتها من القوالب الجادة، لتكتب بلهجة متسمة بالسخرية، وأقرب ما تكون إلى لغة الناس العاديين الذين انحازت إليهم، فتفكك لهم الأساطير المجتمعية والسياسية التي يتخفى خلفها المثقفون البورجوازيّون وخدّام من هم في السلطة، وتخلق لهم بدلاً منها أساطير جديدة مادتها بطولات الناس العاديين والثوريين الذين يواجهون أقدارهم الظالمة.

تُرجمت أعمال لبونياتوفسكا إلى الإنكليزية والبولندية والفرنسية والدنماركية والألمانية، وأحب جمهور عريض من القراء تأملاتها الفلسفية الذكية وحساسيتها المرهفة للصراع الطبقي التي ــــ مع كل ثقلها الموضوعي ـــــ لا تقيد نصها الإبداعي، ولا تمنعه من التحليق. لكن كاتبة بهكذا مزاج لن تلتفت إليها جوائز السيد الأبيض الأدبية، فتجنبتها «نوبل»، كما لو كانت الطاعون.

وجدت في قصص السجناء وحكاياهم مضموناً إنسانياً لم تجده يوماً في تغطيتها لحياة النخبة وهمومها التافهة.

في حياتها الاجتماعيّة، لم تجد بونياتوفسكا ذاتها في مرابع النخبة المكسيكية أو أوساط مثقفيها، رغم أنّها لم تتوانَ في الاستعانة بشبكة علاقاتها العائلية المؤثرة لمساعدة الآخرين، ولم تتلقّ أبداً تعيينات دبلوماسية فخرية، كما هي العادة مع كبار الأدباء في المكسيك. كما رفضت فرصاً عديدة لخوض العمل السياسي. ولما سُئلت يوماً عن ذلك، أجابت بأنها كانت مشغولة للغاية في استكشافها للأحياء الفقيرة في العاصمة، أو التسوق لشراء احتياجاتها من البقالة، بحيث لا يتبقى لها كثير من الوقت للرفاهية، أو للآخرين. وهي في إجابتها تلك كانت تقول نصف الحقيقة فقط، إذ إن روحها النبيلة كانت تتعذب من نفاق المرفهين. بالطبع، فقد مقتها لذلك مثقفو السلطة، وانتقدوا أعمالها بلا رحمة، وراقبتها الشرطة السرية لبعض الوقت، واعتقلت لفترات وجيزة بسبب متابعتها للتظاهرات الطلابية والعمالية، لكن مثابرتها وقدرتها الفائقتين على التعلم أوصلتاها إلى القمة رغماً عنهم، ووظفت وقتها الشخصي عندما لم تكن تكتب للمساهمة في بناء وعي تقدمي للناس، فنظمت ورشة أسبوعية للكتابة الإبداعية استمرت لثلاثين عاماً بلا توقف، وشاركت في تأسيس جريدة يومية، ومجلة نسوية، ودار نشر، إضافة إلى المعهد الوطني للسينما، وقدمت ندوات ومحاضرات عبر العالم باللغات الثلاث التي تتقنها: الإسبانية، والفرنسية، والإنكليزية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«الأخبار» اللبنانية – 26 آب 2023 (مقتطفات ضافية)

عرض مقالات: