اخر الاخبار

رغم الوعود الحكومية بحل أزمة السكن في العراق عبر مشاريع إسكانية عملاقة، يواجه المواطنون، خصوصاً من الشباب وذوي الدخل المحدود، واقعاً مختلفاً تماماً. فالمجمعات السكنية الجديدة التي يجري الترويج لها كحل جذري لأزمة السكن، تحوّلت في نظر كثيرين إلى مشاريع استثمارية بحتة، تغيب عنها العدالة الاجتماعية، وتُثقل كاهل الراغبين في الحصول على سكن بدفعات مسبقة وأقساط تفوق قدراتهم المالية.

وبينما تؤكد وزارة الإعمار والإسكان أن هذه المشاريع تراعي احتياجات جميع الفئات، يرى مختصون ومواطنون أن ما يُطرح على أرض الواقع لا يتماشى مع ظروف الغالبية، بل يكرّس الفجوة الطبقية ويحوّل حلم السكن إلى عبء طويل الأمد.

أسعار خيالية

وفي ظل تزايد تكاليف المعيشة وارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين فئة الشباب، يشهد سوق العقارات في العراق، وتحديدا في العاصمة بغداد، ارتفاعا كبيرا في الأسعار، حتى باتت تُعدّ خيالية وغير واقعية، بحسب الناشط السياسي، حسين العظماوي.

وقال العظماوي لـ "طريق الشعب"، أنه "رغم سعي الحكومة إلى تقديم تسهيلات وتشجيع الاستثمارات في القطاع السكني، خصوصا عبر بناء المجمعات السكنية الحديثة، إلا أن هذه المشاريع أُحيطت بشبهات الاستحواذ من قِبل بعض الأحزاب السياسية وأصحاب رؤوس الأموال، ما جعلها بعيدة عن متناول المواطن العادي".

ويضيف العظماوي أن "أسعار الوحدات السكنية في هذه المجمعات تجاوزت بكثير مستوى دخل الفرد العراقي، لا سيما الشباب منهم، ممّن يواجهون تحديات البطالة ويبحثون عن فرصة عمل وسكن، وهما من أبرز متطلبات الحياة الكريمة".

ويتابع قائلاً، أن "هذا الارتفاع الجنوني في أسعار العقارات لا يقف عند عتبة تعقيد امتلاك السكن، بل يمتد إلى ارتفاع الإيجارات، وانتشار البناء العشوائي، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي ويشوّه التخطيط العمراني للمدن، في وقتٍ تتزايد فيه الحاجة إلى حلول جذرية تضمن العدالة السكنية، وتعيد التوازن إلى السوق العقاري".

لا حلول جذرية

وحذّر الباحث علي نجم العبد الله من أن المجمعات السكنية التي تشيّد اليوم في العراق، رغم الترويج لها على أنها حلول لأزمة السكن، لا تعالج المشكلة من جذورها، بل تسهم في تعقيدها.

وأوضح العبد الله  لـ "طريق الشعب"، أن "معظم هذه المشاريع تستهدف الفئات ذات الدخل المرتفع، وتُهمل كليا احتياجات الشرائح الأوسع من المجتمع، مثل الشباب وذوي الدخل المحدود".

وأشار إلى أن ما يُفترض أن يكون "مشروعا لتحقيق الاستقرار الاجتماعي وتوفير سكن كريم، تحول إلى نموذج يعكس الإقصاء الاجتماعي والتمييز الطبقي، بسبب غياب العدالة في توزيع الفرص السكنية".

وأكد أن التصميم العمراني الحالي لا يعكس احتياجات المجتمع الحقيقية، بل يستنسخ نمطًا من التخطيط، يُفضي إلى مزيد من التهميش.

وأضاف العبد الله أن استمرار هذا النهج في الاستثمار العقاري دون رقابة أو توجيه حكومي عادل قد يؤدي إلى اتساع الفجوة الطبقية، وخلق بيئات سكنية منغلقة تُقسّم المجتمع على أساس اقتصادي، بدلًا من أن توحده تحت مظلة المواطنة المتساوية.

واكد ان "المستفيد من هذه المشاريع السكنية هو المستثمر فقط، لأنه يبني بأموال المواطنين أنفسهم مع وجود دغم حكومي، اذ يدفع المواطن نسبة من كلفة الوحدة قبل أن يبدأ البناء، أي أن المستثمر يعمل برأسمال المواطن، لا رأسماله".

ودعا الحكومة إلى تبني سياسة إسكان شاملة تنطلق من مبدأ العدالة الاجتماعية، وتضمن وصول الفئات المهمشة إلى السكن اللائق، عبر برامج مدعومة، وتسهيلات حقيقية، بعيدًا عن منطق الربح التجاري المجرد.

وحدات سكنية لمختلف الفئات؟

قال المتحدث باسم وزارة الإعمار والإسكان، نبيل الصفار، أن مشاريع المدن السكنية الجديدة التي أُعلن عن انطلاقها مؤخرا تأتي ضمن رؤية حكومية شاملة تهدف إلى زيادة الرصيد السكني في العراق ومعالجة الفجوة الكبيرة في هذا القطاع، من خلال توفير وحدات سكنية تناسب مختلف فئات المجتمع.

وأوضح الصفار في حديث خصّ به "طريق الشعب"، أن "هذه المشاريع تراعي احتياجات الشرائح الفقيرة والمتوسطة وذوي الدخل المحدود"، مشيرًا إلى أن "حصص هذه الفئات ستكون من الوحدات التي تُسترجع من المطورين والمستثمرين العقاريين ضمن نظام الشراكة الجديد".

وأضاف انه "للمرة الأولى، يتم اعتماد شراكة حقيقية مع المطورين العقاريين، حيث تُمنح الأراضي مجانًا مقابل تخصيص نسبة من الوحدات السكنية أو الأراضي المخدومة للدولة".

وأشار إلى أن واحدة من كبرى هذه المدن ستضم 120 ألف وحدة سكنية، منها 12 ألف وحدة ستكون من حصة الدولة، مؤكدًا أن المدينة ستحتوي أيضًا على “أكبر حديقة في العالم”، وليس فقط في الشرق الأوسط أو المنطقة العربية.

وتحدث الصفار عن تنوع المساحات والأسعار في هذه المجمعات، لتناسب جميع الفئات، حيث تتراوح مساحات الأراضي بين 200 و600 متر مربع.

وأضاف أن مبيعات بعض المدن السكنية قد انطلقت بالفعل، مثل مدينتي "الورد" و"الجواهري"، اللتين يبلغ سعر المتر فيهما 900 ألف دينار عراقي، مما يجعل سعر الوحدة السكنية بمساحة 200 متر حوالي 180 مليون دينار، وهو سعر يعتبر منخفضا مقارنة بالأسعار المتداولة حاليا في السوق.

وأكد الصفار أن ملف السكن يعد من أكثر الملفات تعقيدا، إلا أن الحكومة اتخذت حزمة من الإجراءات والمبادرات لمعالجة الأزمة، من بينها مشروع "المطور العقاري" الذي يشمل إيصال الخدمات الأساسية إلى الأراضي، إضافة إلى مبادرات"تسكين" و"أجر وتملك" وغيرها.

ورجح المتحدث أن تبدأ هذه المشاريع بـ"إحداث تأثير إيجابي في السوق العقاري خلال السنوات الأربع أو الخمس المقبلة، إذ إن زيادة العرض ستؤدي تدريجيًا إلى انخفاض الأسعار".

وفي ختام تصريحه، لفت الصفار إلى أن هناك تفاهمات مع عدد من البنوك لوضع صيغ تمويلية تسهم في تسهيل منح القروض للمواطنين، لمساعدتهم على تسديد الدفعات المقدمة وشراء وحدات سكنية، مشددًا على أن الاستثمار العقاري بات خيارًا شائعًا لدى كثير من المواطنين حتى غير المحتاجين للسكن، مما يزيد الضغط على الفئات الفقيرة والمتوسطة، ويؤكد الحاجة إلى تنظيم السوق لتحقيق العدالة السكنية.

معاناة متزايدة

من جانبه، عبّر محيي فياض، وهو شاب عراقي خريج كلية الهندسة المدنية، عن استيائه من طبيعة المشاريع السكنية الجديدة، التي يرى أنها لا تخدم أبناء الطبقة الوسطى، بل تزيد من معاناتهم في البحث عن سكن لائق.

وقال فياض لـ"طريق الشعب"، إنّ "هذه المشاريع لم تبن بمنطق العدالة الاجتماعية، بل بمنطق الربح والاستثمار على حساب المواطن البسيط. من المفترض أن تكون موجهة لذوي الدخل المحدود، لكنها في الواقع بعيدة تماماً عن قدرتنا المالية".

وأشار إلى أنه، رغم كونه مهندساً خريجاً منذ سنوات، لا يزال عاجزاً عن امتلاك وحدة سكنية، بسبب الأسعار الباهظة وشروط الدفع المجحفة.

وتابع انه "كلما تقدّمتُ للحصول على وحدة في أحد هذه المجمعات، أُفاجأ بمطالبة بدفعة مقدمة تصل إلى 30 أو حتى 60 مليون دينار، ناهيك عن أقساط شهرية تتجاوز 800 ونصف. من أين لي بذلك وأنا بلا وظيفة مستقرة؟".

ولفت فياض إلى أن الأسعار في مدينة الجواهري "لا تختلف كثيراً عن باقي المجمعات من حيث الكلفة، رغم أنها تقع خارج مركز بغداد"، مضيفاً: "الفرق الوحيد هو الموقع، أما الأسعار فتبقى مرتفعة، وتفترض أن المواطن قادر على الدفع المسبق والانتظام في الأقساط، وهو أمر مستحيل على الغالبية".

واختتم قائلاً: "نحتاج إلى مشاريع سكنية فعلية تراعى فيها الظروف الاقتصادية لشباب العراق، لا مشاريع تُحوّل الحلم بالسكن إلى عبءٍ نفسي ومالي".

عرض مقالات: