اخر الاخبار

تعيش العاصمة بغداد على وقع أزمة عقارية غير مسبوقة، حيث تتصاعد أسعار العقارات بوتيرة "خرافية"، وسط تحذيرات من تحول المدينة التاريخية إلى سلعة بيد مافيات اقتصادية وسياسية. وفي ظل غياب التخطيط الحضري، وتهالك البنى التحتية، وارتفاع تكاليف المعيشة، تتفاقم معاناة المواطنين، الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة الفقر وسندان سوق عقاري منفلت.

ومع تشابك الأجندات الاستثمارية والسياسية، باتت ملامح بغداد التراثية مهددة بالزوال، فيما ترتفع تساؤلات حائرة عن مصير النسيج الاجتماعي والهوية الحضرية للعاصمة.

وتعد العاصمة بغداد الأعلى كلفة للمعيشة بين محافظات العراق، بحسب تقرير "شبكة المستشارين الميدانيين" لعام 2022، حيث بلغت تكلفة معيشة الفرد غير المقيم ضمن أسرة نحو 675 ألف دينار شهرياً، ما وضعها في المركز الأول محلياً والتاسع عربياً.

وتشير الشبكة إلى أن كلفة المعيشة في بغداد تفوق مثيلاتها في مدن مثل دمشق، التي تُعتبر الأرخص في العالم العربي، بينما تتصدر الدوحة ودبي قائمة المدن الأعلى تكلفة، تليها بقية مدن الخليج وبيروت.

طمس معالم بغداد

واتهم المحلل السياسي محمد زنكنة جهات سياسية متنفذة بشن حملة ممنهجة تهدف إلى طمس المعالم الحقيقية لمدينة بغداد، من خلال إزالة الأبنية القديمة والتصاميم التراثية، بالإضافة إلى هدم تماثيل لشخصيات بارزة كان لها دور محوري في تاريخ العاصمة، وذلك لأسباب سياسية بحتة.

وأشار زنكنة لـ "طريق الشعب"، إلى أن هذه الحملة تقودها ما وصفها بـ"مافيات سياسية" تهيمن على القرار في هذا الملف، مؤكداً أن هناك دوافع اقتصادية وراء هذه التحركات، تتجلى في السعي نحو السيطرة على العقارات القديمة وشرائها بأسعار زهيدة، مستغلين تهالكها أو كونها آيلة للسقوط.

وبيّن أن هذه العقارات تهدم خلال فترات قصيرة لتفسح المجال أمام مشاريع استثمارية جديدة، تتضمن إنشاء عمارات سكنية أو مجمعات تجارية مبنية على مساحات صغيرة لا تتجاوز 75 متراً مربعاً للوحدة السكنية، وبمواصفات بعيدة عن المعايير العمرانية العالمية.

وأضاف زنكنة، أن أسعار العقارات في بغداد تشهد حالياً ارتفاعاً "خرافياً" وغير طبيعي، نتيجة لما وصفه بـ "التنافس السياسي" بين هذه المجموعات، والتي تسعى إلى تعظيم أرباحها من خلال إعادة تدوير ملكيات الأراضي والعقارات وسط العاصمة.

واختتم زنكنة بالتحذير من أن هذه التحركات ليست سوى جزء من خطة ضيّقة لخدمة مصالح فئة محددة، ترتبط بشكل مباشر بأطراف نافذة داخل مؤسسات الدولة، وهي التي تمسك بزمام الأمور في هذا الملف الشائك.

وتشير دراسات حديثة إلى أن أسعار العقارات في العاصمة بغداد ارتفعت بنسبة 50 في المائة خلال العام الماضي فقط، فيما سجلت بعض المناطق تضاعفًا في الأسعار خلال السنوات الخمس الماضية، ما يعكس اضطرابًا واضحًا في سوق العقارات.

وجاء العراق بالمرتبة 81 عالمياً في كلفة الإيجار، والمرتبة 89 عالمياً بتكلفة البقالة، و75 بأسعار المطاعم، وجاء بالمرتبة 68 عالمياً بالقوة الشرائية.

نمو متسارع ونقص في التخطيط

ويرى مختصون أن من أبرز أسباب هذا الارتفاع الحاد هو النقص الكبير في المعروض من الوحدات السكنية، إذ لا تواكب المشاريع العقارية الجديدة حجم الطلب المتزايد، ما يُفاقم من أزمة السكن في المدينة. ويأتي هذا في وقت تُعاني فيه بغداد من كثافة سكانية مرتفعة، تُسهم في زيادة الطلب على السكن، في ظل نمو سكاني متسارع ونقص في التخطيط الحضري الفعال.

وحذر الباحث الاقتصادي أحمد عيد من أن ما تشهده المناطق الشعبية والتراثية في بغداد من ارتفاع غير مبرر في أسعار العقارات، لم يعد نتاجا طبيعيا لحركة العرض والطلب، بل ينذر بتدخل منظم لمافيات عقارية تهدف إلى السيطرة على هذه المناطق عبر شراء العقارات بأسعار خيالية، رغم تهالك البنى التحتية وغياب الخدمات الأساسية فيها.

وأوضح عيد لـ "طريق الشعب"، أن "الكثير من سكان تلك الأحياء اضطروا إلى بيع منازلهم نتيجة الضغوط الاقتصادية، أو بسبب الظروف الاجتماعية والبيئية القاسية، لا سيما في ظل التراجع الكبير في فرص العمل، وتدهور الأمن والخدمات العامة"، مؤكدا ان "هذا الواقع ساهم في خلق "هجرة صامتة" من هذه المناطق، وقد أفرغت تدريجيًا أحياء بغداد القديمة من سكانها الأصليين".

وتابع، أن "الجهات التي تقف خلف موجات الشراء الجديدة تتسم بالغموض وتفتقر إلى الشفافية"، مرجحا استخدامها للعقارات كوسيلة لغسل الأموال أو لتنفيذ أجندات سكانية موجهة، ما يثير تساؤلات حول النوايا الحقيقية الكامنة خلف هذه التحولات السكانية.

وأشار عيد إلى أن "استمرار هذا النهج يهدد النسيج الاجتماعي للمدينة، ويحيل الإرث البغدادي العريق إلى سلعة بيد قوى استيطانية ذات طابع مافيوي". داعيا الجهات الرقابية إلى فتح تحقيق شفاف ومستقل، بعيدا عن التأثيرات السياسية والحزبية، لكشف طبيعة عمليات البيع، وأسباب ارتفاع الأسعار، وتحديد مصادر الأموال التي تمول هذه الظاهرة الخطيرة في قلب العاصمة.

تحذيرات من تفاقم الأزمة

من جانبه، يحذر الباحث الاقتصادي علي نجم من تفاقم أزمة العقارات في العاصمة بغداد، والتي تشهد ارتفاعًا غير مسبوق في الأسعار، متجاوزة في بعض الأحياء نظيراتها في مدن أوروبية وعربية، في ظل تراجع القدرة الشرائية للمواطن.

ويقول نجم لـ "طريق الشعب"، إن "سوق العقارات في بغداد لم يعد يتحرك وفق معايير اقتصادية طبيعية، بل تديره شبكات تبحث عن الربح السريع، مستغلة الاضطراب الاقتصادي والفراغ الرقابي".

ويضيف أن بعض أصحاب المباني المدرجة ضمن لائحة الحماية يلجؤون إلى إغراقها بالمياه أو إشعال النيران فيها للتحايل على قوانين الهدم، بهدف بيع الأرض بأسعار مرتفعة.

ويرى نجم أن تراجع قيمة الدينار العراقي أمام الدولار يُعد من أبرز أسباب ارتفاع الأسعار، خاصة أن معظم التعاملات العقارية تُحتسب بالدولار، في وقت يعتمد فيه العراق على الاستيراد ويعاني من ضعف واضح في الإنتاج المحلي.

ويشير إلى أن غياب التخطيط الحكومي في ملف الإسكان، وتفشي الفساد الإداري، من العوامل الرئيسية التي تُغذي هذه الأزمة "هناك مسؤولون يسيطرون فعليًا على سوق العقارات، ويمارسون الابتزاز والاحتكار"، على حد قوله.

ويحذر نجم من أن هذا الواقع أدى إلى صعوبة حصول المواطنين على سكن ملائم، في ظل تضخم الأسعار، ما يدفع كثيرين إلى إنفاق أغلب دخلهم على الإيجارات أو شراء منزل، وهو ما يزيد من معدلات الفقر ويُضعف باقي القطاعات الاقتصادية.

ويؤكد أن استمرار هذا الوضع دون تدخل سيُسهم في تراجع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، حيث يفضل كثير من المستثمرين الاتجاه نحو العقارات لعوائدها العالية.

ويختتم نجم حديثه بالإشارة إلى أن "هناك عدة أسباب رئيسية تقف خلف أزمة العقارات، منها ضعف قيمة العملة، وارتفاع كلف الإنتاج، وتدني مستوى البنى التحتية، وغياب البيئة الاستثمارية الآمنة"، مؤكدًا أن الاقتصاد العراقي يعيش ظروفًا غير طبيعية، وأن عدم استقرار المؤشرات الاقتصادية يؤدي مباشرة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة في بغداد مقارنة ببقية مدن المنطقة.

عرض مقالات: