وسط المساحات التاريخية المترامية، تتجلى معالم حضارة ضاربة في القدم، حيث تقف الزقورة شاهدة على عصور من الازدهار والتحولات. وبين أطلال المعابد والقصور، تروي الجدران قصصًا عن ملوك أسسوا، وتجّار عبروا، وعلماء راقبوا النجوم. وبرغم ما يحمله المكان من إرث ثقافي هائل، تواجه هذه الشواهد خطر التآكل بفعل الزمن والإهمال.
ويقع عگرگوف في قضاء أبو غريب بمحافظة بغداد، وتحديدًا إلى الغرب من بغداد على مسافة 30 كم (حوالي 19 ميلاً). يشتهر هذا الموقع الأثري بوجوده على حافة المنخفض الذي يُسمى (هور عقرقوف)، ويتميز بتصميمه المستطيل تقريبًا، على أرض كلسية مرتفعة قليلاً وبشكل طبيعي. ويمتد الموقع بطول يصل إلى 2.620 كم، فيما يختلف عرضه من جهة لأخرى، حيث يبلغ في الجنوب الشرقي حوالي 320 مترًا، وفي المنطقة المركزية التي تحتوي على المعابد والقصور حوالي 600 متر، بينما يصل عرضها في نهايتها الشمالية الغربية إلى 640 مترًا.
متى بنيت الزقورة؟
يقول الأكاديمي في الجامعة العراقية مثنى سعدون ظافر الهنداوي، لـ "طريق الشعب"، إن "مصدر المياه الذي كان يغذي هذه المدينة في العصور القديمة كان عبارة عن قناة مائية تمتد من نهر الفرات، وتمر عبر عقرقوف. وقد عُرفت هذه القناة في النصوص المسمارية باسم (پاتي-إنليل)، أي (قناة إنليل)، واستمرت هذه القناة حتى العصر العباسي حيث كانت تعرف بـ (نهر عيسى)".
وتعتبر الزقورة من أبرز المعالم في عقرقوف، حيث تُعد بقايا نواة برج مدرج من عدة طبقات يتم الصعود إليها بواسطة سلالم. ويعد هذا البرج مثالًا هامًا في تطور الزقورات منذ ظهورها وحتى العصر البابلي الحديث. وتُقدّر ارتفاعات الزقورة الحالية بحوالي 57 مترًا، ويُعتقد أن ارتفاعها الأصلي كان يصل إلى 78 مترًا".
ويضيف الهنداوي، أن "بعض الباحثين يعتقدون أن الزقورة قد تم بناؤها تحت نجمة القطب الشمالي، ما يعكس مدى التطور المعرفي في مجالات الفلك والهندسة في تلك الفترة. وتسمى الزقورة في النصوص المسمارية السومرية (أي2-كِ-رِن)، بمعنى "البيت النظيف"، بينما تشير معاني كلمة "زقورة" في لغات أخرى مثل الأكادية إلى برج مدرج أو قمة".
وفي ما يتعلق بالمعابد في المدينة، يشير الهنداوي الى أن المعابد تقع إلى الجنوب الشرقي من الزقورة، ومن أبرزها معبد الإله (إنليل) الذي كان يُسمى (أي2-أو-كال)، ومعبد الإله (نينورتا) الذي كان يُسمى (أي2-ساغ-ديغير-ري-أي-ني)، بالإضافة إلى معبد الإلهة (ننليل)، زوجة (إنليل)، الذي كان يُسمى (أي2-كاشان-أن-تا-غال).
ويوضح الهنداوي، أنه "تم العثور على مصطبة مركزية بين المعبدين الأخيرين، التي يُعتقد أنها كانت برجين ضخمين يواجهان الزقورة أو ربما كانت زقورة صغيرة ثانوية".
أما بالنسبة للقصور في المدينة، فهي تقع اليوم في التل الأبيض جنوب غرب الزقورة، وهي منطقة تحتوي على العديد من المباني والمخازن، وتتميز بحجمها الكبير. وعثر فيها على رسومات جصية ملونة لأشخاص على الجدران.
في عام 1942 - 1945م، فقد أجرت بعثة أثرية عراقية بريطانية برئاسة طه باقر وسيتون لويد العديد من التنقيبات في الموقع، حيث تم الكشف عن العديد من المعالم الهامة مثل تماثيل الملك كوريكالزو وقطع أثرية أخرى.
ويؤكد الهنداوي، أن الموقع الأثري في عقرقوف يشهد الآن عملية صيانة وترميم كبيرة ضمن جهود الحكومة العراقية لتحسين الموقع قبيل حيث أصدر مجلس الوزراء العراقي أمرًا ديوانيًا بتاريخ 16 ايلول 2024، بعد اختيار بغداد كعاصمة للسياحة العربية لعام 2025م. وتشمل عمليات الترميم صيانة الزقورة والمناطق المحيطة بها، وكذلك الطريق المؤدي إلى الموقع، بالإضافة إلى إنشاء مركز ثقافي في المدينة الثقافية. هذه المشاريع من المتوقع أن تسهم في تعزيز قيمة الموقع كمتنزه ثقافي وأثري وسياحي، ما يعزز موقع العراق على خريطة السياحة العالمية.
ويواصل الهنداوي، أن "بعض عمليات الترميم نُفذت على مر العقود، شملت تدعيم الزقورة وصيانة سلالم الطبقة الأولى والمعابد الملحقة، لكن لم يشهد الموقع عمليات ترميم كبيرة منذ عام 2003 وما تلاها من أحداث. ورغم الطروحات والخطط السابقة، لم يتم تنفيذ مشاريع صيانة شاملة حتى الآونة الأخيرة".
ويبين، أن عمليات الترميم تجري وفق خطط علمية ومدروسة تعتمد على الضوابط العالمية الخاصة بالترميم، حيث يتم تحديد الأضرار والاحتياجات من الصيانة بشكل دقيق بهدف حماية الأثر من التلف والاندثار. كما يشترط أن تتم عمليات الترميم باستخدام نفس المواد الأصلية، وألا تطرأ أية تغييرات تتعارض مع الطراز الأثري. إضافة إلى ذلك، يتم توثيق جميع مراحل عملية الترميم بشكل دقيق لضمان الالتزام بالمعايير المتعارف عليها عالميًا.
وينبه الهنداوي الى أن هذه الإجراءات تأتي لضمان عدم تكرار أخطاء سابقة في ترميم مواقع أثرية أخرى، مثلما حدث في مدينة بابل الأثرية، حيث تم استخدام مواد بناء حديثة وأنشئ قصر جمهوري على تل صناعي داخل الموقع. وبرغم ذلك، تم التوصل إلى اتفاق مع اليونسكو لإعادة بابل إلى قائمة التراث العالمي، مع اتخاذ تدابير لتقليل الأضرار الناجمة عن تلك العمليات غير المتوافقة مع المعايير الدولية.
"موضع قضبان الخشب"
وفي حديثها عن موقع "عقرقوف" التاريخي، تشير هديل شاكر، اختصاص قسم التاريخ لـ "طريق الشعب"، إلى أن هذا الموقع كان معروفًا في العصور القديمة باسم "دور كوريكالزو"، ويعني "حصن أو قلعة كوريكالزو". تأسس هذا الموقع على يد أحد ملوك السلالة البابلية الثالثة، الذي توفي في عام 1375 قبل الميلاد. وقد اسس ليكون مركزًا حضاريًا لا يقل أهمية عن بابل، حيث وصل تأثيره إلى حد أن الموقع تم ذكره في النصوص المصرية القديمة المكتوبة بالكتابة الهيروغليفية في حوالي 1351 قبل الميلاد، وذلك في نصوص قوائم أسماء الأماكن الموجودة في المعبد الجنائزي للملك أمنحوتب الثالث في كوم الحيتان.
أما اسم "عقرقوف" فيعتقد أنه صيغة آرامية تعني "موضع قضبان الخشب". وذكرت عقرقوف في النصوص الآرامية السحرية التي عُثر عليها في العراق من عصور ما قبل الإسلام، حيث وردت بصيغة "عقرا". أما في المصادر الإسلامية، فقد كانت عقرقوف معروفة وتواصلت تسميتها على مر العصور، حيث ذكرها ياقوت الحموي في معجمه الشهير "معجم البلدان"، وأورد بيتًا من أشعار أبي نؤاس الذي قال فيه: "رحلن بنا من عقرقوف ××× وقد بدا من الصبح مفتوق الأديم شهيرُ".
واستمرت المدينة في التميز حتى عام 1157 قبل الميلاد، حينما سقطت بيد العيلاميين الذين غزوا المنطقة وأسقطوا الحكم الكاشي. لكن البقايا الرئيسية من المعابد والزقورة والقصور التي نراها اليوم تعود إلى الملك كوريكالزو الثاني، الذي أمر ببناء العديد من المنشآت في مدن مختلفة في العراق، ومنها مدينة أور.
تحذيرات من ترميمات غير مجدية
تُظهر الدلائل الأثرية أن معابد مدينة عقرقوف بقيت عامرة حتى العهد البابلي الحديث في القرن السابع قبل الميلاد. وتخشى شاكر من استخدام المواد الرديئة أو غير الجيدة في أعمال الترميم والتأهيل التي تجري للموقع، إذ أن استخدام هذه المواد قد يؤدي إلى ضرر بالغ بالموقع التاريخي، وربما تدمير بعض معالمه القيمة.
وتؤكد أن "هذا حصل في الكثير من المواقع الأثرية، حيث تضررت أثناء الترميم"، مشيرة إلى أن "الحفاظ على هذا التراث التاريخي يتطلب دقة واهتماما كبيرا في اختيار المواد المناسبة، والحرص على تنفيذ الأعمال بطرق علمية متخصصة، لضمان بقاء هذا الموقع الثمين للأجيال القادمة".
ووفقا للمنقب الآثاري جنيد عامر حميد، كانت زقورة عقرقوف تعتبر مركزًا تجاريًا رئيسيًا لعدة قرون، حيث كانت تمر عبرها قوافل الإبل والتجارة عبر الطرق القديمة، مشيرا الى ان الموقع الجغرافي المميز للزقورة جعلها وجهة مفضلة للنزهات العائلية، خاصة في أيام الجمعة والعطل الرسمية، بفضل قربها من العاصمة بغداد.
وقال حميد في حديث صحفي، أنّ "متحفًا صغيرًا تم إنشاؤه بالقرب من الزقورة عام 1960 بهدف تقديم خدمات للزوار والسائحين، لكن هذا المتحف أصبح مهملًا حاليًا"، موضحا أن قرب الزقورة من بغداد كان عاملًا أساسيًا في جعلها واحدة من أشهر الأماكن التراثية في العراق في تلك الفترة.
إهمال متعمد للمواقع الآثارية
وحذّر حميد من تأثير التغيرات المناخية على المواقع الأثرية في العراق، خاصة تلك المبنية من اللبن والطين المفخور، وهي مواد أكثر عرضة للتلف مقارنة بالأحجار الصلبة، مؤكدا ضرورة "إنشاء سقيفة عملاقة أو صندوق زجاجي لحماية الزقورة من التأثيرات البيئية والعوامل المناخية التي قد تؤدي إلى تدهورها". وتطرق إلى قضية ضعف الاهتمام بالمواقع التراثية، مشددا على أن "الإهمال المتعمد لهذه المواقع يُعد إساءة حقيقية لتاريخ العراق القديم وإرثه الحضاري"، مبينا أن هناك حاجة ماسة إلى "تطوير البنية التحتية حول الزقورة"، من خلال بناء فنادق، منتجعات، مطاعم، وأسواق، لضمان تقديم تجربة مريحة للسياح.
وأكد أن "عدم توفر هذه الخدمات يعيق جذب السياح إلى هذه المواقع التاريخية النائية في الصحراء"، ما يحد من قدرتها على الإسهام في تنمية السياحة والاقتصاد المحلي.
ضآلة التخصيصات المالية
من جانبه، قال أحمد المختار، مسؤول الإعلام في الهيئة العامة للآثار والتراث، أنه "لا يوجد أي إهمال حالي في المواقع الأثرية في العراق"، وأوضح أن الحكومة قد أولت اهتمامًا كبيرًا بالآثار، حيث تم ترميم وإعادة تأهيل العديد من المواقع الأثرية.
وأضاف المختار لـ "طريق الشعب"، أن "الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد في الفترات السابقة والحكومات المتعاقبة قد أثرت في الحفاظ على التراث، لكن مع تحسن الأوضاع الحالية، بدأت البعثات الأثرية في استئناف أعمالها، وتلقى العديد من المواقع اهتمامًا خاصًا"، مشيرا الى ان التحدي الأكبر في ملف الآثار يتمثل "بقلة التخصيصات المالية".