اخر الاخبار

أختارت جريدتنا “طريق الشعب” الرفيق الشاعر الراحل ابراهيم الخياط شخصية لمهرجانها الثامن، الذي اقيم في يومي 26 و 27 تشرين الأول الماضي على حدائق أبي نؤاس في بغداد. وقد عقدت ندوة حول الفقيد الكبير في اليوم الثاني للمهرجان، شاركت فيها نخبة من مثقفي ومبدعي بلادنا، ننشر فيما يلي عرضاً لها.

 الشاعر عمار المسعودي: شخصية المهرجان، شخصية شاغفناها مشاغفة فظلت ملتصقة في القلب. لم يك إبراهيم الخياط شيوعيا وحسب، إذ حباه الله بعشرات المواهب، الصدق والأمانة والصلابة في مقارعة النظام، والوطنية والمبدأية والصدق والشفافية وجمال الشاعرية. قال لي يوماً، هربت يا عمار من السجن وفي يدي القيد، فقررت ان اذهب الى كربلاء، حيث كسر الأصدقاء قيد يديّ بصعوبة! وقال لي، زجوا بي أيام الاستبداد في جبهات الحرب الأمامية بلا سلاح، وكأنهم يخافون ان انقلب من الحدود في الحرب العراقية الإيرانية عليهم. لإبراهيم اهديت قصيدة عنوانها

«أمره في الضوء»:

سألني عن البداية

قلت: لِمَ أبدأ ؟

ورحتُ عنه بانتشاء كبير !

سامحته انا المتربِّع على اخضر السواقي،

عن يباسه وصدّه.

الخضرة وأسرار الكروم

هي بعض أجوبتي إليه

وبعض هنائي.

ذدت عنه الغبار وافتضاح أمره في الضوء؛

فراح عنِّي وفي يديه عناقيد من الرضا.

لا تلمني قال

قلت له لا تلمني.

لا تلمَّني قال

قلت له : اتِّحادي في بعثرتي!

نزلْت من الحلْمِ إليه

مزقت ثوب الظلام

مابين يديه، وحين

تجمعت أمامه تصففْت وتجمعت ؛

حدَّثني عن الغياب،

حتى صار حضوري هباءً لديه.

قلت له : أنا ايُّها الصاد

حالم كبير ، ودائما ما أحسبها

لي الاشياء التي لا أمتلك؛

فصدَّ عنِّي أكثر ، ورماني

في جُبِّ حضرته العميق.

راميته بالخضرة، وبماء الساقية الجاري مثل دمع؛ فراح بعطشه عنِّي.

تسلَّق ما ان خرج شجر الكمثرى الذي يحيط بذاكرتي ورماني بناضجه وفجِّه بأصفره وأخضره.

ملأ قبَّة ثوبه ثمرا غابرا

كان يمسح بكُميه الواحدة منها؛

ويصيح على أُمراء الفراغ من الفقراء

يمنحَهم ، أثمارَه ورضاه.

هكذا هو إبراهيم الخياط.

الشاعر عمر السراي: شكرا لكم على هذه الدعوة الكريمة، شكرا لكم وانتم تعطون تقاليد للصحف وللجرائد بوصفها مناطق تنوير وتلهمون الاخرين خطوات لكي يتبعوها فينتشروا ما بين الاخرين ويؤثروا ويستلهموا من الجمهور ما يمكن ان يعّضد مسيرة الاعلام والصحافة بالثقافة وبالمجتمع. والشكر الكبير للاختيار الدقيق والمهم للشاعر إبراهيم الخياط ان يكون شخصية لهذه الدورة من هذه الأيام الثقافية والإعلامية لطريق الشعب، الشكر موصول للدكتور عمار المسعودي وللاصدقاء المتداخلين والمحاضرين والسيدات والسادة الحضور.

إبراهيم الخياط شخصية لا يمكن ان تُختصر بجانب واحد، بحيث نتحدث عن هذا الجانب لكي نشبعه، كما يقول ارباب الدراما، وهو يصنعون المسلسلات والأفلام. ثمة شخصيات بسيطة وشخصيات مركبة. والشخصيات المركبة تلك التي تتنامى وتحمل ابعاداً نفسية واوجه مهمة ولا تتوقف عند حدث واحد. إبراهيم الخياط شخصية ثقافية وطنية مدنية إبداعية ادبية إعلامية إنسانية، مركبة من كل هذه الأشياء، لذلك من الصعب ان نلم بابراهيم الخياط، دون ان نجّزء ما اجاد به ونتحد بهذه الأجزاء، لكي نصنع صورة إبراهيم الخياط الخالدة الى الان.

يحلو لي ان ابتدأ بابراهيم الخياط الشاعر الذي يمتلك بصمة خاصة بكتابته، يكتب قصيدة حداثية، قصيدة النثر، بجزالة ومفردات وتراكيب ليست حديثة، المعجم اللغوي لابراهيم الخياط ،هو معجم تراثي يذهب الى القدم، يعرف كيف يستلهم المفردات القديمة لكي يوظفها برؤية جديدة وبشكل جديد، الا وهو قصيدة النثر بوصفها شكلا من اشكال الحداثة الشعرية. وهذه السمة الاسلوبية لدى إبراهيم الخياط هي سمة قلما تجدها عند شاعر اخر. سألته مرة إن كان بحاجة لان يطبع مجموعة شعرية أخرى بعد جمهورية البرتقال، فقال لا، ستكون لي مجموعة شعرية واحدة وهي جمهورية البرتقال، وحسنا فعل بانه صنع لنفسه خصوصية ووصفا ولقبا، كلما قلنا شاعر جمهورية البرتقال فهو إبراهيم الخياط، وان كانت لديه قصائد أخرى الا انه لم يكن راغبا بأن تسجل جزءا من تجربته الشعرية، كان يريد ان يكتفي بمجموعة شعرية واحدة.

إبراهيم الخياط، هو ذاك الإنسان الصابر الهادئ الذي يستطيع ان يتحلى بامرين مهمين، برودة التأثر وحسم القرار، وهما امران مهمان، إبراهيم لا يتعصب بسهولة الا انه شجاع باتخاذ القرارات ويعرف كيف يتخذها ويعرف كيف يستوعب الاخرين ويعرف كيف يفصم ظهر من لا مجال له للاستمرار معه. هذه شخصية تحمل في داخل قلبها قدرة إدارية مهمة وقدرة إنسانية مهمة، استطاع ان يخضع الإدارة للإنسانية وان يوظف الإنسانية لخدمة الإدارة وهذا أمر مهم امتاز به إبراهيم اذ بقينا كلنا نذكر هذا الشيء ونحاوله دائما.

اما إبراهيم الخياط صاحب الموقف والمقارع للدكتاتورية، إبراهيم الخياط الشيوعي الحزبي الوطني المنظم المعتقل المقارع المكافح الذي يقف بوجه الظلم، المتظاهر، شخصية ليست خاصة بالحزب الشيوعي وحده، بل هي عامة للوطن كله، الذي يفخر بابراهيم الخياط، بوصفه وطنياً من الطراز الأول، يمثل حزبه ويمثل وطنه، مواقفه دائما مع الشعب، كالجواهري الذي قال “اني اظل مع الرعية ساغبا”.

ثمة سمة أخرى لدى إبراهيم الخياط، الا وهي إبراهيم الخياط الكاتب. يمتلك إبراهيم الخياط بصمة متميزة في كتابة المقال. كان يغرد بعنوان “تغريدة الأربعاء” قبل ظهور التويتر، ويكتب باستراتيجية مهمة، هو لا يذهب الى إعطاء الرأي مسبقا انما يتعامل اكاديمياً مع كتابة المقالة، يعطي فرشة من المعلومات في البداية قبل ان يوصل قارئه الى الضربة الأخيرة.

قلت له انت تتعامل مع المقالة وكأنك تكتب بحثاً خال من التهميشات، الا انك تورد ما قيل دائما وتذهب في النهاية الى إعطاء رأي معين، قال انا لا اريد ان امارس الاستاذية على اساتذتي، لذلك لا اريد ان ابادر بالرأي دائما، انا أكون ناقلا للمعلومات أولا وفي الأخير اعطي رأيي. اكتشفت بعد مدة من دراسة متواضعة لمقالاته ان إبراهيم الخياط لا ينقل نقل الباحث الذي يقوس او ينظر او يتصرف، انما يصنع الحدث التاريخي الذي ينقله دائماً، يصنع احداث داخل ما ينقله من تاريخ، احداث غير موجودة في المصدر الأساسي، الحدث حقيقي وصحيح الا ان إبراهيم كان يصنعه دراميا، وهذه سمة أخرى تستحق أن تدرس.

اما إبراهيم الخياط الصحفي فاظنه يمتلك امرين مهمين، القدرة والعين على التغطية والتقاط الأشياء، والانضباط الصارم لغويا وادبيا وزمنا أيضا. كان يعرف كيف يضع البدايات والنهايات والفواصل، لذلك اظنه نجح نجاحا كبيرا في ان يكون صحفيا ماهرا وناطقا ماهرا للاتحاد وامينا عاما له.

نحاول دائما ان نكون جزءا مما أعطاه وجزءا مما وصل اليه، لكننا سنعيا بالتأكيد، فهو يمتلك شرف الابوة والتأسيس والمحبة والصداقة دائما. تحية للخياط إبراهيم وهو يحظر دائما بيننا ويجمعنا بروحه الكريمة وبروحه الإنسانية، تحية له وهو يؤسس لجيل كامل من المحبة والعطاء، تحية له شاعرا ورفيقا ووطنيا وانسانا ومكافحا وحزبيا متمرسا ومعتقلا ومفرجا عنه، تحية له كاتبا واداريا وامينا وقلبا واسعا يستطيع ان يلهمنا دائما.

الدكتور محمود الخياط (عن عائلة الفقيد): في البدء انقل تحيات العائلة لكم، واعرب عن امتنانهم وتقديرهم للحزب الشيوعي العراقي، قيادة وأعضاء ورفاق وأصدقاء، الشكر أيضا لجريدة طريق الشعب على هذا الاحتفاء الرائع والمتميز للراحل الخالد إبراهيم الخياط. نحن هنا لنستمع لتجارب الاخرين وحديثهم وانطباعاتهم عن ابي حيدر، الذي هو ابن الحزب الشيوعي قبل ان يكون ابننا.

نحن عائلة عراقية مكونة من أب وأم وتسعة أولاد ثلاث بنات وستة أولاد، كانت علاقة ابراهيم بوالدي متميزة منذ الطفولة، وحين بلغ عمره 14 سنة، صار مسؤولاً عن العائلة. انظم إبراهيم للحزب الشيوعي عام 1973، وتم اعتقاله لأول مرة في عام 1978، حيث عرفنا بأنه يناضل ضد النظام والسلطة. رحل الى كربلاء عام 1978 لتجنب مضايقات البعثيين داخل بعقوبة، لكنه اعتقل ثانية في عام 1980، ثم اطلق سراحه في عام 1982. واعتقل اخي خليل وفقد، وتوفي والدي عام 1984، فإتسعت مسؤوليات ابراهيم العائلية، وكان يستعين عليها بعبارة (الحزب رباني)، ولهذا واجه الاعتقالات والملاحقة، وصار مثابراً جداً. لم يكن قادراً على اكمال الإعدادية اثناء المطاردة، وفي عام 1987 تقدم للامتحانات الخارجية وحصل على الشهادة الإعدادية اثناء الحرب. كان وفياً للجميع. إبراهيم بعد عام 2003 هو نتاج لابراهيم الذي خلقته الظروف والعائلة والذي نفخر ونعتز به.

 بسام عبد الرزاق: أحاول ان اتحدث عن جانب واحد من جوانب الراحل الخياط، الذي يحتاج نتاجه أن يتجزأ من اجل ان يجمع، كي نفهم إبراهيم بمشغله المتنوع. اريد ان اتحدث عن المبادرة لدى إبراهيم الخياط، وقد اخذت اتجاهات كثيرة اذا كانت على صعيد كونه شيوعي واديب وكاتب ومربي أيضا.

في 2011 لم تكن هناك تظاهرات في العراق، كانت هناك تظاهرات تخرج عن الكهرباء او عن الخدمات، وما ان بدأت ثورات الربيع العربي، حتى استلمت رسالة من إبراهيم تدعو الى وقفة احتجاجية وتضامنية في نفس الوقت امام السفارة التونسية وتضامناً مع التونسيين، وتمت هذه الوقفة وبعدها وقفة تضامنية في ساحة التحرير مع الاحتجاجات والثورة التي اندلعت في مصر. كان إبراهيم محاطاً بالشباب. وفي وقت ثورات الربيع العربي تحولت رسالة إبراهيم الى ورشة وعامل مؤثر في الحراك الاحتجاجي.

كان الكثيرون لا يعرفون دور ابراهيم الخياط الا عندما كتب قصيدة “باطل”. لقد كتب بعدها اكثر من 20 قصيدة للتظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في العراق، كان مؤيد الطيب يردد الهتافات والشباب يوزعون نسخا منها وتصل الى الجمهور، هذه هي المبادرة لدى إبراهيم الخياط وانا تحدثت عن هذا الجزء لان الكثيرين لا يعرفون ان إبراهيم كان محركاً أساسياً في الاحتجاجات التي اندلعت في العراق.

د. احمد الزبيدي: إبراهيم الخياط في قلوبنا قبل ان نسمعه وفي وجداننا. اريد ان اشير الى قضية تكاد تكون راسخة في الثقافة العربية، ما يسميه محمد عابد الجابري بالعقل القياسي، عادة هنالك مثال نقيس عليه الأشياء والجمال، قياس شعرية إبراهيم الخياط بالشعر الذي كتب في زمنه او قبله هو مثال شعر اعتيادي حتى نكون موضوعيين، وهذا ليس من باب التقليل، لكن المثال الذي قدمه إبراهيم الخياط هو المثال النقابي الذي أسس لتقاليد أصبحت مرجعا يحتذى به، المسؤول الذي يصر على الجلوس في الخلف، والمسؤول الذي لم اره يوما يرتدي رباطاً. أتذكر حين اقام اتحاد الادباء وقفة احتجاجية على اختيار وزير الثقافة، وكانت احدى الجهات السياسية تصر على ان يكون الوزير منها، طلب المرشح اللقاء باتحاد الادباء ليعقد صفقته كما يتصور، واذكر ان في ذلك الوقت كانت الزيارة الاربعينية واتصل بي إبراهيم الخياط وقال لي اذا كنت في البيت ولست في الزيارة، فارجوا ان تحضر الى الاتحاد. وصلت صباحا الى هناك وكان معي الأستاذ اشور، وكنت ارتدي البدلة والرباط فقال انزع رباطك واخلع السترة وارفع قميصك قلت لم فقال حتى لا يتصور اننا مهتمون به فأدركت ان حتى في ذلك الامر كان إبراهيم الخياط مثال.

أيضا كانت لدى إبراهيم الخياط الفاظ كادت تتحول الى مصطلحات، حين نرددها مع بعضنا نحن الأصدقاء كلمة “على راسي” او “لا عليك” كل هذه الجمل كانت لابراهيم الخياط وهذه الصورة دلالة سيمائية على طريقته في الالقاء وكما قال السموأل:

إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضه.. فَكلُ رداءٍ يرتديهِ جميلُ

وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها.. فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ.

محمد الخياط: لا اريد ان ازيد على ما تحدث به الأصدقاء قبلي، لكني سأتحدث عن فترتين فقط، تبلورت شخصية الراحل إبراهيم الخياط حزبيا وادبيا منذ عام 1974 الى نهاية السبعينيات، وهي الفترة الخصبة بالتأكيد كما يعلم الجميع، وتأثره بالشهيد الشيوعي الراحل الأستاذ خليل المعاضيدي وهو استاذه، ولم ينفك إبراهيم الخياط دائما عن ذكره في كل صغيرة وكبيرة، لما له من فضل في اكتشاف بواكير نتاجه الأدبي، وكذلك وضع قدمه الأولى في صفوف الحزب الشيوعي، في الشبيبة أولا ومن ثم صفوف الحزب الشيوعي العراقي.

بالنسبة للقدر وما له من تأثير على إبراهيم الخياط هنالك ثلاث حوادث في حياته، وصل بها الى الموت ونجى. الحادثة الأولى كانت في عام 1982، حيث انقذه عفو رئاسي من المشنقة، حينها قال الراحل انها رسالة من السماء لي بأن هناك شيء مستقبلي يجب ان اعمله. الحادثة الثانية التي لم يذكرها احد هي في الأشهر الأخيرة من الحرب الإيرانية العراقية 1988، حين تعرض إبراهيم في جبهات القتال الى رصاصة بي كي سي لكنها كانت في موقع في جسده لم تكسر عظما ولم تقطع عصبا دخلت من اعلى الفخذ وخرجت من الجهة الخلفية، فتشافى خلال اشهر، وقال لي حينها انها رسالة ثانية بأن هنالك شيء في المستقبل لي. الحادثة الثالثة كانت عام 1994 حين سقطت بنا السيارة على ضفاف نهر خريسان في ليلة شتائية ممطرة، وانقذته من موت محتم، فقال لي انها رسالة قوية بأن هناك ما ينتظرنا لنقدمه لعائلتنا او لاخرين. بقيت هذه الحوادث في ذهني الى ان وصلنا الى الحادث الأخير والاليم في عام 2019، لانه سبق الحادث وقدّم الى المجتمع والعائلة الكثير. كان وفياً لرفاقه واساتذته، يقول لي عن الفريد سمعان ومفيد الجزائري و رائد فهمي، تاريخ يمشي على الأرض، هكذا علمنا إبراهيم حب الوطن بعيدا عن السلطة وعلمنا ان حب الحبيبة وحب الام هو حب الوطن.