اخر الاخبار

تتفاقم أزمة المياه في محافظة البصرة يوما بعد آخر، حيث تحول شط العرب من مصدر حياة إلى بؤرة للملوحة والتلوث، مهدداً صحة الإنسان. وبين انخفاض الإطلاقات المائية، وامتداد اللسان الملحي من الخليج العربي، باتت المياه المتدفقة الى المنازل غير صالحة للاستخدام، ودخلت المدينة مرحلة حرجة من التدهور البيئي والمعيشي.

ومع اشتداد الأزمة في محافظة البصرة ارتفعت أسعار المياه المباعة عبر التناكر إلى أكثر من 20 ألف دينار للطن الواحد، مقارنة بـ10 آلاف فقط في السابق، وهو امر أثقل سكان المحافظة خاصة ذوي الدخل المحدود.

ويعاني سكان محافظة البصرة، وتحديدا المناطق القريبة من الخليج العربي، من تفاقم أزمة ملوحة وتلوث مياه شط العرب، وهي أزمة لها أبعاد بيئية واقتصادية خطرة.

"خدعة إعلامية"

المهندس عدنان محمد، أحد أبناء البصرة، يصف هذه الأزمة بأنها "كارثة مستمرة منذ سنوات طويلة"، مشيراً إلى أن مناطق "مثل السيبة، الفاو، قضاء شط العرب، والهارثة، تعد من أكثر المناطق تضرراً".

ويُرجع عدنان في حديث لـ "طريق الشعب"، السبب الرئيس لهذه الأزمة إلى انخفاض منسوب مياه نهر دجلة، ما أدى إلى ازدياد المد الملحي القادم من الخليج العربي نحو شط العرب، بالتزامن مع غياب واضح لأي حلول فعلية من قبل الحكومة المحلية في البصرة.

ويضيف: "في السابق، خرجنا في تظاهرات حاشدة، احتجاجا على تدهور واقع المياه، وكانت التظاهرات آنذاك تعبيرا عن غضب شعبي عميق، استمرت أياما طويلة"، مضيفا "كنا نأمل أن يتحقق شيء، لكن كل ما حصلنا عليه كان اهتمام شكلي بالمنظر الخارجي للمحافظة دون معالجة حقيقية للبنية التحتية والخدمات الأساسية".

ويؤكد أن الأوضاع الحالية أصبحت أكثر سوءا مما كانت عليه في الماضي، حيث انكشف زيف المشاريع التي تم الترويج لها تحت اسم الإعمار، ليتبين لاحقا أنها كانت "خدعة إعلامية"، ولم تؤسس لبنية تحتية حقيقية، خصوصًا في ما يتعلق بمحطات معالجة المياه.

ويُشير عدنان إلى أن مياه الشرب والاستخدام اليومي في المناطق المتضررة باتت شبه معدومة، مع انتشار التلوث بشكل كبير، نتيجة تصريف المياه الصناعية والزراعية دون أي معالجة إلى مجرى شط العرب، فضلا عن المخلفات الصحية والنفطية التي تسهم في تدهور جودة المياه. كما أن استخدام الأسمدة الكيميائية في الزراعة يؤدي إلى تسربها إلى الأنهار، ما يزيد من حدة التلوث.

ويخلص الى القول: "نحن اليوم ندفع ثمن الإهمال المتراكم، ونواجه أزمة مياه حقيقية تهدد حياة الناس وصحتهم، وسط تقصير حكومي مستمر، وغياب لأي رؤية لحلول مستدامة تنقذ ما تبقى من مياه البصرة".

الملوحة في قلب المدينة

ويقول الناشط البيئي، وأحد وجوه الحراك الشعبي في المحافظة، سرمد البصراوي، إن رد الحكومة على احتجاجاتهم لم يكن بمستوى خطورة ما نادوا به. حيث تم التعامل معنا كمخالفين للقانون، وليس كصوت إنذار يحذر من كارثة وشيكة".

ويضيف البصراوي خلال حديث مع "طريق لشعب"، أن "الأمور وصلت إلى حد الملاحقة القانونية ورفع الدعاوى ضد المتظاهرين، بدل من محاورتهم والاستماع لمطالبهم المشروعة".

ويتابع بالقول: ان "لو تم التعامل بجدية مع أولى بوادر الأزمة في شمال العراق، لما وصلت الملوحة إلى مركز مدينة البصرة، ولما تفاقمت هذه الأزمة حتى باتت المياه المالحة تنساب الى البيوت".

ومع تراجع الإطلاقات المائية وانخفاض تدفق المياه في نهري دجلة والفرات، تمدد اللسان الملحي من الخليج العربي حتى بلغ قلب مدينة البصرة. مناطق مثل المعقل، الجبيلة، العشار، الجنينة، البراضعية، أصبحت تعاني من مياه ذات طعم مالح ورائحة كريهة ولون غير طبيعي، وفقًا لشهادات مواطنين.

ويشير البصراوي الى ان "الماء الذي يصلنا لا يصلح حتى لغسل الصحون، حيث نضطر بشكل يومي إلى شراء الماء من التناكر، ليس فقط للشرب، بل لكل الاستخدامات المنزلية، والذي تجاوز سعره الـ 15 الف دينار ووصل الى حد 20 الف فيما كان بالسابق يباع بـ 10 الاف دينار".

أرقام مقلقة

وأقرت دائرة ماء البصرة بوجود تصاعد خطر في نسبة الملوحة داخل الشبكات المغذية للمحافظة.

وقال هيثم جار الله، معاون مدير الدائرة، إن "قلة الإطلاقات المائية القادمة من الشمال باتجاه شط العرب هي السبب الرئيس وراء هذا التدهور"، مضيفا أن التراكيز الملحية في قناة كتيبان، التي تُعد مصدرا رئيسيا للمياه في أقضية شط العرب وأبي الخصيب، وصلت إلى 3500 TDS، بعد أن كانت لا تتجاوز 1500 TDS قبل أشهر قليلة فقط.

وأضاف قائلاً انه "في منطقة سيحان، الوضع أكثر خطورة، حيث تجاوزت التراكيز الملحية فيها 19,500 TDS، نتيجة غلق نهر الكارون من الجانب الإيراني، ما أدى إلى امتداد اللسان الملحي نحو مركز المدينة".

وقال علي العبادي، رئيس المركز العراقي لحقوق الإنسان في البصرة، إن أزمة الملوحة في المحافظة تمثل أزمة حقيقية ومركبة لم تُعالج حتى الآن بحلول استراتيجية فعّالة، مشيراً إلى أن ما تم طرحه حتى اليوم هو "مجرد حبر على ورق".

وأوضح العبادي في تعليق لـ "طريق الشعب"، أن "الأزمة تفاقمت منذ عام 2018 مع تزايد اللسان الملحي، ونتجت عن أسباب متعددة من أبرزها قلة الإطلاقات المائية والتغيرات المناخية".

وأضاف، أن المفوض السامي لحقوق الإنسان زار البصرة قبل عامين بعد زيارته للعاصمة بغداد، وأكد في تصريح له أن "من هنا تبدأ درجة الغليان"، وقدم توصيات واضحة للحكومة، لكنها لم تلقَ آذانا صاغية، على حد قوله.

وأشار إلى أن مؤتمر المناخ الذي عُقد في البصرة تضمّن عدة توصيات من بينها، توسيع المساحات الخضراء، وتخصيص الأموال لتحسين شبكات المياه، وفرض ضرائب مضاعفة على شركات الوقود الأحفوري، والالتزام بخفض التلوث البيئي، إلا أن أياً من هذه التوصيات لم يُنفذ حتى الآن.

كما ذكر أن من بين الحلول المقترحة نصب محطات تحلية على البحر، مشيراً إلى أن الحكومة منحت في 9 آذار 2024 الصلاحية للحكومة المحلية، وفي 19 من الشهر نفسه تم التعاقد مع عدد من الشركات، متوقعاً أن تُقدم خرائط وموقع المشروع خلال 90 يوماً. لكنه أكد أن "وتيرة العمل تسير ببطء".

وعن التأثيرات الصحية، أشار العبادي إلى أن البصرة شهدت في عام 2018 أكثر من 120 ألف حالة إصابة نتيجة تلوث المياه والتسمم، مشدداً على أن الوضع اليوم لا يقل خطورة.

كما كشف عن اجتماع عُقد يوم 18 حزيران مع وزير الموارد المائية، أشار فيه الوزير إلى أن مشكلة توزيع المياه الخام من قبل مديرية ماء البصرة لا تتعلق فقط بالإطلاقات المائية، بل أيضاً بوجود مشاكل داخل المدينة، منها رمي النفايات ومياه الصرف الصحي في الأنهار، وتعطل بعض محطات المعالجة.

واختتم العبادي حديثه بتجديد دعوة المركز العراقي لحقوق الإنسان إلى تشكيل غرفة طوارئ فورية، وتنفيذ حلول حقيقية تشمل: استكمال خط الأنبوب الناقل، نصب محطة التحلية على البحر بشكل استثنائي، رفع التجاوزات، وتخصيص الأموال بشكل مباشر لتحقيق التوازن البيئي في البصرة.

عرض مقالات: