تُعتبر ظاهرة إطلاق النار العشوائي في العراق، من أخطر الظواهر المجتمعية الناتجة عن انتشار السلاح المنفلت وعدم القدرة على السيطرة عليه. ولا يسلك ذلك الرصاص طريقا آمنا أبدا، سواء أُطلق ابتهاجا بعرس أم حزنا على جنازة، أم حتى خلال نزاع عشائري. إذ يخترق أجساد أبرياء لا علاقة لهم بما يجري، لتتكرر المأساة ذاتها مع أسماء مختلفة. حيث يسقط ضحايا بلا ذنب، سوى لأنهم كانوا في المكان والتوقيت الخطأ!
وبالرغم من الإجراءات القانونية والأمنية المشددة التي تحظر بشكل صريح إطلاق النار في المناسبات، إلا أن الظاهرة لا تزال تستمر، لا سيما في القرى والأرياف البعيدة عن المدن.
ويعتبر القانون العراقي إطلاق الرصاص في المناسبات، مخالفة قانونية. إذ يُعاقب من يُطلق العيارات النارية في المناسبة، بالسجن مدى لا تقل عن عام، مع غرامة مالية.
لا منأى من الإصابة
كان حسين عباس يجلس رفقة عائلته في حديقة منزله في قرية صغيرة شمالي بغداد، حين شعر بشيء يخترق كتفه.
يروي عباس في حديث صحفي تلك الحادثة التي لن ينساها أبدا: "كان الجو هادئا، لا صوت ولا مناسبة قريبة، وفجأة شعرت بألم حاد وكأن شيئا احترق في كتفي. لم افهم ما جرى إلا حين رأيت الدم يسيل، وأدركت انها رصاصة طائشة".
ويتابع قوله: "في المستشفى اكد الطبيب انها رصاصة، ويبدو انها اطلقت من مكان بعيد. أجريت لي عملية جراحية، وتم استخراجها، نجوت منها لكن حتى الآن لا أعرف من اطلقها، ولا مناسبة إطلاقها".
ويتمنى عباس أن "اعيش في بلد لا يُطلق فيه الرصاص إلا في ميادين الحرب أو التدريب العسكري، لا في الأفراح ولا في الأحزان".
إصابات بالجملة
لم تعد تلك الحوادث نادرة. فبحسب تقارير طبية وامنية، تستقبل المستشفيات باستمرار أعدادا من الإصابات الناتجة عن الرصاص العشوائي، بعضها ينتهي إلى الموت، خصوصا إذا كانت الاصابة في الرأس أو الصدر.
ويذكر الطبيب محمد العيساوي أن "بعض المناسبات يشهد عددا كبيرا من المصابين بالرصاص الطائش، مثل مناسبات فوز منتخب كرة القدم أو رأس السنة. وتصل أعداد الإصابات احيانا إلى العشرات".
من جانبه، يستعيد سعدون جلوب ذكرى حادثة أليمة حصلت قبل أكثر من عامين. إذ يقول: "كنا في تشييع جنازة عمي في إحدى قرى ذي قار، ووسط الحزن بدأ بعض الشباب بإطلاق الرصاص في الهواء، كما تجري العادة، فجأة سقطت أرضا بعد أن شعرت بضربة قوية في يدي. علمت لاحقا انها رصاصة أطلقها أحد الموجودين معنا وسارت في مسار خاطئ. لكن الأمر لم يتوقف عندي، فأحد أقاربي سقط قتيلا بعد أن اخترقت رصاصة أخرى صدره".
ويضيف في حديث صحفي قوله: "تحوّل العزاء إلى مأتم مضاعف، وخسرنا شابا في مقتبل العمر بلا ذنب. لا احد يُحاسب، فقط نقول قضاء وقدر، ويمضي كل شيء. لا أريد أن يسقط أحد من عائلتي مجددا، بسبب رصاصة، بلا هدف".
عدم الامتثال للقانون
يُعد إطلاق العيارات النارية العشوائية جريمة يعاقب عليها القانون العراقي. وفي هذا الصدد يقول المحامي عمر حسين أن "المادة 24 من قانون الأسلحة العراقي الصادر سنة 2017، تنص على معاقبة كل من يطلق العيارات النارية في المناسبات العامة والخاصة بالحبس مدة لا تقل عن سنة، مع غرامة مالية"، مستدركا في حديث صحفي "لكن رغم وجود هذا النص القانوني، لا يزال تطبيقه ضعيفا. فغالباً لا يتم التعرف على الجاني، لأن الرصاصة تأتي من مكان مجهول، ويصعب إثبات الفاعل، فينتهي الأمر بلا عقوبة".
ويرى حسين أن "غياب الردع الفعلي ووجود التسامح الاجتماعي مع هذه الظاهرة، كل ذلك يجعلها تتكرر"، لافتاً إلى أنه "في الكثير من الحالات، يكون الفاعل معروفاً، لكن يتم حل الأمر عشائرياً، أو يُغض الطرف عنه بداعي عدم تعكير صفو المناسبة".
قرارات عشائرية
في السياق، يقول الشيخ جاسم الشمري، أحد وجهاء العشائر في محافظة كربلاء، أن عدداً كبيراً من زعماء القبائل أصدروا قرارات صارمة بمنع إطلاق النار في كل المناسبات.
ويوضح في حديث صحفي أنه "ألزمنا أنفسنا وأفرادنا في مجلس شيوخ العشائر بعدم إطلاق النار، ومنعنا حدوث ذلك في الأعراس أو الجنازات. لكن الواقع يقول إن السيطرة على كل الشباب أمر شبه مستحيل"، مضيفا قوله أنه "في لحظات الانفعال، سواء خلال فرح أم خلال حزن، يفقد البعض السيطرة، ويرى في إطلاق النار تعبيراً عن مشاعره. وهناك من يجرب سلاحه في المزارع أو المناطق المفتوحة، فيطلق النار في الهواء من دون تفكير في العواقب".
ويلفت إلى أن "الصراعات العشائرية في بعض المحافظات تتحول إلى معارك مسلحة، ويُستخدم فيها السلاح المتوسط أحياناً، ما يؤدي إلى سقوط ضحايا، من بينهم أحياناً من لا علاقة لهم بالنزاع أصلاً".
ويشير الواقع إلى أن الرصاص الطائش أصبح جزءاً من يوميات العراقيين، لا سيما في المناسبات التي يُفترض أن تكون للتعبير عن الفرح أو الحزن، لكنها تتحول إلى مأساة لأسر أخرى. وبين تقصيرِ أمني، وتراخٍ اجتماعي، وضعف في تنفيذ القانون، تبقى دماء الأبرياء مهددة بالإراقة في أي لحظة!