في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، تتفاقم ظاهرة التسول في العراق بشكل مقلق، لا سيما مع تورط الأطفال في هذا السلوك الذي لم يعد عفوي أو عشوائي، بل اتخذ طابعا منظما تقوده شبكات و"مافيات" تمتد خيوطها، بحسب مختصين، إلى جهات أمنية تحميها وتتواطأ معها.
ورغم وجود قوانين تجرم التسوّل وتعاقب القائمين عليه، إلا أن ضعف التطبيق وتراخي الجهات المعنية ساهما في اتساع رقعة هذه الظاهرة، التي باتت تهدد ليس فقط الأمن الاجتماعي، بل تُسهم في ترسيخ أنماط من الاستغلال الممنهج للفئات الأضعف، وعلى رأسها الأطفال.
مافيات منظمة
وذكر الخبير الأمني عدنان الكناني، أن ظاهرة التسوّل في العراق أصبحت تُدار من قبل مافيات منظمة، مشيرًا إلى ارتباط هذه المافيات بـ"أجهزة أمنية" توفر لها الحماية والتغطية، ما يزيد من خطورتها وصعوبة السيطرة عليها.
وقال الكناني في حديث مع "طريق الشعب"، إن "التسول الآن تقوده مافيات، وهذه المافيات مرتبطة بأجهزة أمنية"، مؤكداً أن "أغلب رجال الأمن، وتحديدا عناصر شرطة النجدة والمرور، وكذلك أفراد فوج الطوارئ المنتشرين في التقاطعات، لديهم ارتباطات مع هذه العصابات. وهذه مشكلة كبيرة، لأنها تعني أن هناك جهات تسرق وتستعطف الناس وتحميها جهات أمنية، وهو ما يضرب الثقة بالأجهزة المسؤولة عن حماية المواطن".
واستشهد الكناني بحادثة انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، قائلاً: "شاهدنا مقطع فيديو يظهر فيه شاب في أحد التقاطعات التي يتواجد فيها متسولون يدعون أنهم يغسلون السيارات أو يبيعون مواد بسيطة، لكنّهم في الحقيقة عصابات ومافيات. وقد قاموا بالهجوم عليه وطعنه بالسكاكين، وذلك بمرأى ومسمع من الدوريات الأمنية الموجودة في المكان". ووجه الكناني انتقادات حادة إلى وزارة الداخلية، متهما إياها بالتقصير د في أداء دورها.
وقال ان "وزارة الداخلية تتحمل المسؤولية المباشرة، فقد أصبحت مواقف الوزير مجرد ترند على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يظهر في مقاطع فيديو وهو يلتقي بمواطنين أو بذوي شهداء، وهي لقاءات استعراضية لا أثر فعلي لها على أرض الواقع، بل مجرد تمثيل وتضليل باسم التواصل مع الناس واحترامهم".
واختتم الكناني قائلاً: "الآن طفح الكيل وخرجت الأمور عن السيطرة. لا يجوز التستر على هذه القضايا بعد الآن، ويجب أن يُحاسب كل مقصر. هناك تقصير كبير وواضح من قبل وزارة الداخلية، ويتوجب عليها التحرك فورا لحماية الشارع من هذه الشبكات الإجرامية المنظمة".
ظاهرة التسول
فيما ذكر الباحث الاجتماعي أحمد البياتي بأن ظاهرة التسول في العراق لم تعد مجرد مظهر من مظاهر الفقر أو الحاجة، بل تحولت إلى شبكة منظمة في كثير من الحالات، تستخدم أساليب جديدة ومتطورة لاستمالة تعاطف المواطنين، ما يشكل خطراً على النسيج الاجتماعي والأمن المجتمعي على حدّ سواء.
وقال البياتي لـ "طريق الشعب"، أنه "لاحظنا خلال السنوات الأخيرة تغيراً واضحاً في نمط التسول، حيث بات بعض المتسولين يستخدمون أطفالاً، أو يدعون الإصابة بأمراض مستعصية، أو يعرضون مستندات مزيفة، وحتى يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لاستعطاف الناس. هذه الأساليب تعكس احترافية لدى بعض الجهات التي تقف خلف هؤلاء، وهي في كثير من الأحيان شبكات تستغل الفئات الضعيفة لتحقيق مكاسب غير مشروعة".
وأشار إلى أن التداعيات الاجتماعية لهذه الظاهرة خطيرة، حيث تسهم في تعزيز ثقافة الاتكالية والاعتماد على الآخرين، وتشوه صورة الفئات الفقيرة والمحتاجة فعلاً، كما تزرع مشاعر الخوف والارتياب لدى الناس، وتؤدي إلى فقدان الثقة في العلاقات المجتمعية.
وأضاف البياتي ان "ما نحتاجه اليوم هو معالجة جذرية لهذه الظاهرة من خلال تفعيل القوانين الرادعة، وتكثيف حملات التوعية، بالإضافة إلى دعم برامج الرعاية الاجتماعية التي تستهدف المحتاجين الحقيقيين، وليس المتسولين الذين اتخذوا من هذه الممارسة مهنة".
واختتم بالتأكيد على أهمية دور المؤسسات التربوية والإعلامية والدينية في نشر ثقافة العطاء المنظم والمسؤول، وتشجيع التبرع عبر القنوات الرسمية، لضمان وصول الدعم إلى مستحقيه، والحد من استغلال تعاطف الناس من قبل الجهات غير النزيهة.
ويعد التسول من أبرز الظواهر الاجتماعية السلبية التي أخذت بالاتساع في الشوارع والأسواق وأمام دور العبادة في العراق، حيث يتخذ المتسولون أساليب متنوعة لخداع الناس واستدرار عطفهم.
وفي هذا السياق، يشير القانوني مصطفى البياتي إلى أن التسول لم يعد مجرد سلوك فردي، بل تحوّل إلى "مهنة" تمتهنها بعض المافيات المنظمة، مستغلة العوز والفقر لدى الناس كذريعة للاحتيال على المجتمع.
ويؤكد البياتي لـ"طريق الشعب"، أن "المتسول يستخدم حيلا متعددة، من أبرزها التظاهر بالبكاء، وادعاء فقدان المال، والتمارض، وافتعال الإعاقات، بل وحتى استئجار الأطفال أو استخدام حديثي الولادة لإثارة شفقة المارة. كما يتعمد البعض اختيار الأماكن المزدحمة لزيادة فرص الحصول على المال، في حين يدعي اخرون الإصابة بأمراض مزمنة أو اضطرابات عقلية ويتلفظون بعبارات غير مفهومة، وكل ذلك بهدف كسب التعاطف واستغلال عاطفة الجمهور".
ومن الناحية القانونية، يوضح البياتي أن المشرع العراقي تناول جريمة التسول في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدّل، حيث تنص الفقرة الأولى من المادة 390 على معاقبة كل شخص تجاوز السن القانوني وكان له مورد مشروع للعيش أو قادراً على العمل، إذا ضبط متسولاً في الأماكن العامة أو دخل دون إذن إلى المنازل لغرض التسول، بالحبس لمدة لا تزيد على شهر. وتشدد العقوبة لتصل إلى ثلاثة أشهر إذا ثبت أن المتسول تصنع جرحاً أو عاهة أو ألح في الاستجداء".
أما في ما يتعلق بالأحداث دون سن 18، فقد نصت الفقرة الثانية من المادة 390 نفسها على تطبيق أحكام مسؤولية الأحداث، بما في ذلك إمكانية إيداع الحدث دار تشغيل إن كان قادراً على العمل، أو ملجأ أو دار رعاية معترف بها إذا كان عاجزاً عن العمل".
ولم يغفل القانون العراقي ظاهرة التشرد المرتبطة بالتسول، إذ يقول البياتي، ان "قانون رعاية الأحداث رقم 76 لسنة 1983 في المادة (24) على اعتبار الصغير أو الحدث مشرداً إذا وجد متسولاً في الأماكن العامة أو ادعى الإصابة بجروح أو عاهات لكسب عطف الجمهور".
ورغم هذه النصوص القانونية، إلا أن الظاهرة شهدت تزايداً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، لا سيما مع تطور أساليب التسول وتحولها إلى نشاط منظم تمارسه مجاميع تتخذ من هذه الجريمة وسيلة للربح غير المشروع، عبر توزيع الأدوار واختيار مناطق معينة لممارسة هذا السلوك، الأمر الذي يدعو إلى إعادة النظر في العقوبات الحالية.
وفي ختام حديثه، شدد البياتي على أهمية تفعيل تطبيق قانون رعاية الأحداث، وتعزيز دور مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وتغليظ العقوبات بحق المتورطين في استغلال الأطفال وكبار السن في التسول، مؤكدا أن التصدي لهذه الظاهرة لا يتحقق إلا "بإجراءات قانونية رادعة وتكاتف مجتمعي حقيقي للقضاء على أحد أخطر الأمراض الاجتماعية التي تهدد النسيج الإنساني والحضاري في البلاد".
ضرورة التعليم الالزامي
فيما حذرت الناشطة المجتمعية إلهام قدوري من التدهور الحاصل في أوضاع الطفولة في العراق، مؤكدةً أن الأطفال باتوا الفئة الأكثر تضررا من الأزمات المتلاحقة التي يعيشها البلد منذ عام 2003، في ظل بيئة تتسم بانعدام الاستقرار، وتفشي البطالة، وارتفاع نسب الأمية، وتردّي الأوضاع الصحية والاجتماعية.
وقالت قدوري لـ "طريق الشعب"، إن "غياب الظروف المعيشية السليمة، وانتشار الفقر، أسهما في تفشي ظاهرة تسول الأطفال، والذين يكون العديد منهم تحت تأثير عصابات منظمة تستغلهم لأغراض غير إنسانية"، مضيفة أن "الظاهرة لا تقتصر على التسول فقط، بل تشمل أيضًا تسربا واسعا من المدارس، وانتشارا لتعاطي المخدرات بين صفوف الأحداث، في ظل غياب السيادة الحقيقية وقيادات وطنية قادرة على حماية الأجيال القادمة".
واعتبرت أن "كل هذه الظروف تؤدي إلى نشوء جيلٍ غير قادر على العيش بصورة سليمة، وتُحول الأطفال إلى أدوات سهلة للانحراف، ما يجعلهم لقمة سائغة للتنظيمات الإرهابية التي تستغل هشاشتهم وتُجنّدهم لأعمال إجرامية تلحق الضرر بهم وبالبلاد".
ودعت الناشطة إلى ضرورة توفير حماية قانونية شاملة للأطفال من جميع أشكال العنف، مؤكدة أن "العنف يولد الإرهاب"، كما طالبت الدولة بتوفير التعليم الإلزامي والمجاني باعتباره الوسيلة الأساسية لبناء جيل واع ومثقف، قادر على مواجهة تحديات المستقبل.