اخر الاخبار

بينما كانت عاصفة رملية تجتاح حقول الحنطة في صحراء النجف، إبّان نيسان الماضي، كان الفلاح هادي صاحب يتفقد سنابل القمح التي يرويها بمياه جوفية. فمع اشتداد موجات الجفاف، أصبح الاعتماد على هذا المصدر المائي خيارا لا مفر منه، رغم تحذيرات الخبراء من مخاطر استنزافه المفرط. في بلد يعاني تراجعا حادا في مستويات الأمطار وتقلص تدفق المياه في نهري دجلة والفرات، تتجه السلطات نحو استغلال المياه الجوفية كإحدى الخيارات المهمة لضمان الأمن الغذائي.  ووفقا للأمم المتحدة، فإن العراق يُصنف بين الدول الخمس الأكثر تأثرا بتغير المناخ. وبالعودة إلى صاحب، فإنه يزرع محصول الحنطة على مساحة 200 دونم استأجرها من الدولة، لقاء دولار واحد عن كل دونم. وبفعل استخدامه المياه الجوفية صار ينتج موسميا نحو 250 طنا من الحنطة، مقارنة بـ10 أطنان كان ينتجها اعتمادا على مياه الأمطار.  يقول صاحب في حديث صحفي: "سابقا كنا نعتمد على الأمطار في ري محاصيلنا، لكن الجفاف المتزايد دفعنا لاستخدام أنظمة ري حديثة، اعتمادا على المياه الجوفية"، مبينا أنه "يستحيل أن نستمرّ من دون المياه الجوفية. ونضوبها سيعني رجوعنا إلى العصور القديمة والاتكال على السقي بمياه الأمطار، وهي باتت شحيحة جدا". وتُستخدم في صحراء النجف أنظمة الري بالرش التي تستهلك كميات أقل من المياه بنسبة تصل إلى 50 في المائة، ما يساعد على تحويل مساحات شاسعة من الصحراء إلى دوائر خضراء تُرى من الجو. وتُظهر بيانات وزارة الزراعة أن هذا الشتاء شهد زراعة 3.1 ملايين دونم بالاعتماد على المياه الجوفية مقابل مليونَي دونم بالري السطحي.

مدير زراعة النجف يُحذّر

بدأ استخدام تقنيات الري الحديثة في صحراء النجف منذ أكثر من عقد، بدعم حكومي يتمثل في تقديم تسهيلات من خلال توفير تلك التقنيات بأسعار مدعومة على أقساط ميسرة تمتد لـ10 سنوات. 

ووفقا لمدير زراعة النجف منعم شهيد، فإن زراعة الحنطة في الصحراء تحقق إنتاجية أعلى مقارنة بالأراضي الطينية، متوقعا أن يبلغ إنتاج الدونم الواحد المروي بالمياه الجوفية، نحو 1.7 طن، مقابل 1.3 طن فقط للدونم المروي بمياه الأنهار.

ويشير في حديث صحفي إلى أن أرباح الموسم الزراعي 2023-2024 تضاعفت 8 مرات مقارنة بالموسم السابق. لكن شهيد يحذّر من مخاطر الإفراط في استغلال المياه الجوفية، مشددا على ضرورة تنظيم حفر الآبار واستخدام المياه بشكل مستدام، بحيث يتم تخصيصها حصريا للاستخدامات الزراعية المصرّح بها.

ضرورة أخذ العبر من التجربة السعودية

في صحراء كربلاء، تدير العتبة الحسينية مشاريع زراعية ضخمة منذ 2018، تشمل زراعة آلاف الدونمات بالحنطة، مع خطط لزيادة المساحة إلى 15 ألف دونم مستقبلا - حسب رئيس قسم التنمية الزراعية في العتبة قحطان عوز، الذي يوضح في حديث صحفي أن "هذه المشاريع تعتمد على خزاني المياه الجوفية الرئيسين في المنطقة، الدمام وأم الرضمة، اللذين يتقاسمهما العراق مع السعودية والكويت. وبينما تُحذر الأمم المتحدة منذ عام 2013 من بدء نضوب تلك الموارد، تُقدم التجربة السعودية دروسا وعبرا للعراق. ففي التسعينيات كانت السعودية سادس أكبر مصدّر للقمح عالميا بفضل استخراج مكثف للمياه الجوفية. لكن هذا الاستغلال المفرط أدى إلى استنزاف أكثر من 80 في المائة من الطبقة الجوفية، ما اضطر البلاد إلى إيقاف هذه الزراعة بعد موسم 2016.

أزمة تلوح بالأفق

من جانبه، يحذر الخبير في سياسات المياه والأمن المناخي سامح المقدادي، من أن التعامل مع المياه الجوفية باعتبارها موردا لا ينضب خطأ فادح.  ويقول في حديث صحفي أنه "في الماضي، كنا نحفر على عمق 50 مترا للوصول إلى المياه الجوفية، أما اليوم فقد نضطر للحفر حتى 300 متر". ويلفت المقدادي إلى "غياب البيانات الرسمية الحديثة حول كميات المياه الجوفية المتاحة. إذ يعود آخر التقديرات إلى سبعينيات القرن الماضي، وهو ما يعيق القدرة على إدارة هذا المورد الحساس". ويرى أن "غياب التنسيق بين السلطات، ونقص التقنيات الحديثة لإجراء مسوحات جيولوجية دقيقة، يفاقمان المشكلة"، لافتا إلى أن "المياه الجوفية يجب أن تكون ملاذا خلال أزمات الجفاف فقط، لا أساسا لتوسيع الزراعة التجارية. ويحذر المقدادي من ان "اعتبار المياه الجوفية بديلا دائما عن الأنهار، يعني كارثة مستقبلية حتمية". وبينما تسعى الحكومة لتأمين قوت الشعب في ظل تغير المناخ المتسارع، تواجه معضلة حقيقية: كيف تحقق الاكتفاء الذاتي دون تدمير مصدر حيوي للمياه لا يمكن تعويضه بسهولة؟ لذلك فان تحقيق توازن بين تنمية الزراعة وحماية الموارد الطبيعية، بات ضرورة ملحة. فالمستقبل لا يتطلب فقط مضاعفة الإنتاج الزراعي، بل حماية كل قطرة ماء تُسقى بها سنابل القمح في قلب الصحراء.