لم تعدْ ضفاف نهر دجلة في بغداد كما عرفها أهل المدينة لعقود، متنفسا طبيعيًا ومجانيا لهم، إذ تحوّلت تدريجيا إلى واجهات مغلقة لمشاريع استثمارية خاصة: مطاعم وكازينوهات ومرافق ترفيهية لطبقة معينة من المجتمع.
يقول الناشط زين العبيدي إن "ضفاف دجلة، التي كانت مساحة خضراء ومفتوحة أمام الجميع، خصوصًا في مناطق الكرادة والأعظمية والجادرية، أصبحت اليوم محاطة بسلاسل من الاستثمارات التي تقطع طريق الناس إلى النهر، الذي اخذ يقفد هويته ورمزيته كجزء من الذاكرة الجمعية والحياة اليومية لسكان العاصمة".
ويضيف العبيدي لـ "طريق الشعب"، ان "المشكلة لا تكمن فقط في مشاريع الاستثمار، بل في كيفية إدارتها"، ويؤكد أن "ما يحدث هو خصخصة لضفاف النهر التي يفترض أن تكون مرافق عامة، لكن الفوضى والفساد وضعف التخطيط والمتابعة جعلت رؤوس الاموال المشبوهة تسيطر على تلك الضفاف".
ودفع هذا الواقع نشطاء بيئيين ومدنيين إلى إطلاق حملات طالبت بتحييد آفة الاستثمار التي غيرت ملامح النهر، مطالبين بإيقاف الاستحواذ على تلك الضفاف، ووضع خطة عمرانية تضمن التوازن بين التنمية واحترام الفضاءات العامة.
لا تخطيط عمرانياً مدروساً
وقال المهندس المختص في شؤون البلديات سلوان الأغا إن "عملية البناء والتوسع العمراني في بغداد يجب أن تتم وفق تخطيط حضري مدروس يحدد استخدامات الأراضي بوضوح، سواء كانت للسكن، التجارة، الصناعة أو المساحات الخضراء، وهذا ما تُبنى عليه التصاميم الأساسية للمدن".
وأضاف الاغا في حديث لـ"طريق الشعب"، أن "الضغوط السياسية والاقتصادية، وكذلك تدخل رجال الأعمال، بات لها تأثير واضح في كيفية إنشاء المجمعات السكنية والمباني العالية، بينما تجد الدوائر الحكومية صعوبة في تنفيذ مشاريعها الخدمية بسبب ضعف الدعم والتخطيط".
وأوضح الأغا أن "البناء على ضفاف نهر دجلة، خاصة داخل مركز العاصمة بغداد، يتطلب مراجعة للقرارات التنظيمية، وينبغي أن يُقيد بعدد طوابق لا يتجاوز الثلاثة، كما هو معمول به في مدن أوروبية مثل برلين، حفاظًا على الطابع التراثي والهوية البصرية للنهر".
وأشار إلى أن "البنايات العالية، خصوصًا في المناطق القديمة المشبعة بالخدمات، تُشكل ضغطًا هائلًا على البنية التحتية من كهرباء، مجار، اتصالات، وحتى مواقف السيارات، إذ أن بناء برج من 30 طابقًا لا يُقارن ببناية من 3 طوابق من حيث الاستهلاك والتحميل على المرافق العامة".
وبين الأغا أن "هناك حاجة ملحة لقرار تشريعي يحدد بوضوح المسافات المسموح بها للبناء قرب حافة نهر دجلة، مع فرض قيود على عدد الطوابق ونوع الاستخدام، منعا لإنشاء نشاطات صناعية أو تجارية كثيفة تؤدي إلى تلوث بيئي أو ضغط خدمي غير محتمل".
واختتم بالقول ان "بغداد ليست فقط عاصمة سياسية، بل هي مركز حضاري وتاريخي، ويجب أن يكون هناك وعي مجتمعي وحراك مدني وبيئي يضغط باتجاه الحفاظ على واجهتها النهرية وتوازنها العمراني، قبل أن تُفقد ملامحها التراثية بالكامل".
التجاوز على المناطق التراثية
من جهته، حذر المعماري والخبير في تخطيط المدن، موفق الطائي، من التدهور العمراني الكبير الذي تعيشه العاصمة بغداد، نتيجة الفوضى والتجاوزات المستمرة على ضفاف نهر دجلة، وعلى المناطق التراثية والعامة، في ظل غياب واضح لتطبيق التصاميم الأساسية للمدينة.
وقال الطائي إن "ضفاف نهر دجلة في بغداد أصبحت ضحية للفوضى العمرانية، حيث يُسمح بالبناء عليها بشكل اعتباطي، رغم أنها مناطق محرّمة عمرانيًا وفق التصاميم الأساسية"، مشيرًا إلى أن "هذه التصاميم وضعتها شخصيات معمارية مرموقة منذ العشرينيات من القرن الماضي وحتى عام 2014، لكنها أُهملت بالكامل، ما تسبب في انحراف المدينة عن مخططها الأصلي وفتح الباب أمام انتشار البناء العشوائي".
وأوضح أن "من أبرز مظاهر هذا التشويه، التجاوزات على المناطق التراثية، مثل شارع الرشيد ومنطقة الكرخ، حيث أُهملت المباني التاريخية، وتعرض بعضها للهدم أو المصادرة"، مضيفًا أن "حديقة الزوراء باتت مهددة بفقدان جزء كبير من مساحتها لصالح مشروع المتحف العراقي الجديد، في تعدٍ واضح على المساحات الخضراء والمعالم التراثية".
وأكد الطائي، أن "الفساد المستشري في ملف الإعمار هو أحد الأسباب الرئيسة لهذا الانحدار، إذ لا تُبنى البنايات بمبالغ طائلة من دون أن يكون خلفها عمليات تبييض أموال"، مشيرًا إلى أن "ملف الاستثمار تحول إلى أداة خطيرة للتجاوز على الأراضي العامة، حيث تُمنح أراضٍ حكومية خارج إطار التصميم الأساسي، دون مقابل حقيقي للدولة".
وشدد على أن "هناك قاعدة عالمية مفادها أن الأرض تعود للدولة ولا تُمنح لأفراد إلا في حالات خاصة جدًا، لكن في بغداد تُمنح بلا ضوابط وتُستخدم لأغراض استثمارية في أماكن غير مخصصة أصلاً للاستثمار، ما زاد من حالة العشوائية العمرانية وفقدان المدينة لهويتها البيئية والمعمارية".
بدوره، ذكر المحلل السياسي محمد زنكنة إن "لكثير من الرؤوس الكبيرة في العملية السياسية متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في المشاريع المثيرة للجدل على ضفاف نهر دجلة، والتي تُعد بالنسبة لهم وسيلة للاسترزاق السريع".
وأضاف زنكنة في حديث لـ"طريق الشعب"، أن "ما يجري في بعض مناطق بغداد من تنفيذ مشاريع مشبوهة ليس مجرد نشاطات ترفيهية أو خدمية، بل هو أحيانا غطاء لغسل الأموال وتمويل أنشطة غير قانونية، مثل تجارة السلاح، المخدرات، بل وحتى الاتجار بالبشر"، على حد قوله.
وأوضح أن "وجود المقاهي والكازينوهات على ضفاف دجلة ليس بالضرورة أمرا سلبيا، فهذا موجود في كثير من دول العالم، لكن الخطر يكمن في غياب الإطار القانوني والتنظيمي، وفي التراخي بمحاسبة المخالفين، ما يجعل هذه المشاريع وسيلة لتكريس هوية الفساد".
وأشار إلى أن "بعض الجهات السياسية تستخدم هذه المشاريع كغطاء للحصول على أرباح سريعة، دون اكتراث بالعواقب الاجتماعية أو الأمنية، وهو ما يمثل تهديدًا حقيقيًا لاستقرار المدينة وسلامة المجتمع".
واكد بالقول "إذا لم تتم معالجة هذه الظواهر بجدية ومحاسبة المتورطين فيها، فإننا نسير نحو تحويل الفضاء الحضري لبغداد إلى مرتع لأنشطة مشبوهة تعزز نفوذ قوى الفساد".