مع بداية موسم الحر في العراق واستفحال أزمة الكهرباء، تتكرر حوادث الغرق في الأنهار والمسطحات المائية، لتحصد أعدادا كبيرة من الشباب والأطفال وسط انعدام إجراءات السلامة وغياب الرقابة، وعدم اتخاذ حلول جذرية لهذه المشكلة المزمنة.
وتُسجل غالبية حوادث الغرق في نهري دجلة والفرات، إلى جانب الروافد الفرعية كنهر العظيم وسدي الموصل والكوت وغيرها. إذ لا يجد آلاف الشباب الهاربين من منازلهم الخانقة، ملاذا سوى هذه الأماكن التي تتحوّل إلى مصائد موت، في ظل انحسار المسابح النظامية، وارتفاع أسعار الدخول إلى القليل المتوفر منها. لذلك يجد الفقراء أنفسهم مجبرين على المجازفة في مياه غير مهيأة للسباحة.
وبحسب تقارير متفرقة تتداولها وسائل إعلام، فإنه في العام 2021 وقع ما يقارب 280 حادث غرق، وفي العام 2022 سجلت الشرطة المجتمعية أكثر من 300 حادث، معظمها في بغداد وذي قار والبصرة. أما في العام 2023 فقد سجلت وزارة الداخلية أكثر من 400 حالة غرق في مختلف المحافظات، غالبيتها في شهري تموز وآب، ومعظم ضحاياها من الفئات العمرية بين 10 و25 عاما.
ومنذ مطلع هذا العام – حسب ما تنقله وكالات أنباء عن مواطنين – جرى تسجيل عشرات حالات الغرق، معظمها في أنهار ومسطحات مائية غير مستوفية شروط السلامة.
وكانت الشرطة النهرية في نينوى قد أعلنت أخيرا عن انتشال جثة شاب عشريني غرق في نهر دجلة غربي الموصل. وتعد هذه الحادثة السابعة في المحافظة خلال الشهرين الأخيرين.
واللافت في الأمر، هو أن المشكلة تتداخل مع أزمات أخرى، مثل انقطاع الكهرباء وغياب البدائل الترفيهية.
لا لافتات تحذير ولا فرق إنقاذ
المواطن أبو حسين من مدينة بعقوبة، يقول في حديث صحفي أن حوادث الغرق تحصد العشرات سنوياً، في ظل غياب تام لإجراءات السلامة. ويوضح أن "الأنهار تفتقر إلى معايير السلامة. إذ لا توجد فرق إنقاذ قريبة، ولا لافتات تحذر من خطورة السباحة في تلك الأماكن، لا سيما المواقع العميقة وذات التيار المائي القوي"، مشيرا إلى غرق شاب قبل أيام في نهر خريسان، لم يتمكن أحد من إنقاذه.
أما في الموصل، فيفيد المواطن نزار خالد بأن نهر دجلة تحول خلال السنوات الأخيرة إلى مصدر تهديد حقيقي لحياة الشباب، بعد أن كان رمزاً للحياة والبهجة في المدينة.
ويشير في حديث صحفي إلى انه "نعيش قلقاً يومياً على أبنائنا. إذ ان غياب المسابح العامة أو الأماكن المخصصة للسباحة، يدفع الأهالي نحو ضفاف النهر رغم التيارات المائية القوية"، مبينا أن "نهر دجلة تحوّل إلى مصيدة موت بفعل ضعف دور فرق الإنقاذ والتقصير الرسمي في الإرشاد والسلامة".
ويؤكد أنه "قضى أحد أقاربي غرقاً أخيراً رغم إجادته السباحة"، داعيا إلى تحرك جدّي يبدأ بتوفير بدائل آمنة، إضافة إلى توعية الأطفال والأهالي بمخاطر السباحة في الأماكن غير المؤهلة".
الشرطة النهرية تبذل الجهود
من جهته، يقول المتحدث باسم وزارة الداخلية العميد مقداد ميري، أن "الشرطة النهرية تواصل جهودها منذ مطلع الربيع، في تنفيذ خطة موسعة للحد من حوادث الغرق، تتضمن تكثيف الدوريات والزوارق في مواقع السباحة الشعبية، خصوصاً تلك التي تتكرر فيها حوادث الغرق سنوياً"، مضيفا أن "الشرطة النهرية انتشلت خلال الشهور الماضية عشرات الجثث في مناطق متفرقة، معظمها لأطفال وشباب غرقوا في أماكن غير مخصصة للسباحة".
ويوضح أن "الوزارة وضعت خطة تشمل إجراءات متعددة، منها نشر لافتات تنبيهية في المناطق الخطرة، وتسيير دوريات خلال ذروة الحر، فضلاً عن إطلاق حملات توعية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والسلطات المحلية، تستهدف الأهالي وتلاميذ المدارس، لرفع الوعي بمخاطر السباحة العشوائية".
ويلفت ميري إلى أن التصدي لهذه الظاهرة يتطلب تعاوناً مجتمعياً حقيقياً. ويقول أن ""المسؤولية لا تقع على الدولة وحدها، بل تستوجب وعياً جماعياً، ومشاركة فاعلة من الأسر في مراقبة أبنائها وتحذيرهم من السباحة في المواقع الخطرة".
خلل بنيوي في منظومة الخدمات
إلى ذلك، يرى الباحث الاجتماعي مهند الحديثي أن "تصاعد حوادث الغرق بين الأطفال والشباب في العراق خلال فترات الحر، يعكس خللاً بنيوياً متراكماً في منظومة الخدمات العامة، إلى جانب غياب الثقافة الوقائية".
ويبيّن في حديث صحفي أن "الانقطاع المتكرر للكهرباء، وافتقار المدن والأرياف إلى مرافق ترفيهية آمنة، يدفع كثيرين إلى التوجه نحو الأنهار والمسطحات غير المؤمّنة، ما يعرّض حياتهم للخطر في ظل غياب الرقابة والوعي"، مضيفا أن "هذه الكوارث هي نتيجة بيئة منهكة ومهملة تفتقر إلى التوعية الفاعلة، والإشارات التحذيرية، والرقابة المنتظمة على تلك المسطحات التي تحولت إلى مصائد موت، لا سيما للأطفال الذين يُتركون دون إشراف في ظل انشغال الأهل بمشاغل الحياة".
ويشير الحديثي إلى أن "جهود الشرطة النهرية في التعامل مع الحوادث وانتشال الجثث ضرورية، لكنها غير كافية".
ويتابع قوله: "نحن بحاجة إلى منظومة متكاملة تبدأ من المدارس وتنتهي بتخطيط عمراني يراعي الاحتياجات المجتمعية خلال الصيف.
فمن دون معالجة جذرية تشمل البنية الخدماتية، والوعي الأسري، والتدخل الحكومي الفاعل، سنكون مقبلين على صيف كارثي آخر".
أخيرا، ان استمرار تكرار حوادث الغرق كل صيف لا يمكن أن يُعزى فقط إلى قلة الوعي، بل هو انعكاس مباشر لغياب البدائل الآمنة، وانحسار البُنى التحتية الترفيهية، وغياب التخطيط الرسمي لمواجهة حرارة الصيف القاسية، ومن ذلك تحسين الطاقة الكهربائية. وما لم تُوفّر المسابح العامة بأجور مناسبة، وتُطلق حملات توعية فعالة، وتُؤمَّن ضفاف الأنهار بإجراءات وقائية، وتُحل أزمة الكهرباء، ستبتلع الأنهار سنويا أسماء جديدة من الأطفال والشباب، لتُضاف إلى سجلّ ضحايا حرارة الجو وسوء الإدارة والإهمال المتراكم!