اخر الاخبار

في زمن النظام الدكتاتوري المباد، وتحت ضغط الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتردية، بدأت ملامح التشرد تتضح في بعض المدن. إذ يمكن ملاحظة شخص ينام في حديقة، وآخر تحت جسر، وغيره على رصيف أو في سوق، فكان التشرد موجودا لكن على نطاق ضيق. أما بعد 2003، وبفعل تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية، فقد أصبحت هذه الظاهرة مألوفة جدا، خاصة في المدن الكبرى المزدحمة بالسكان، مثل بغداد والبصرة.

وكثيراً ما يُشاهَد في الشوارع مشرّدون يسيرون بين الناس، أو يقفون عند إشارة مرور، أو يفترشون أرصفة. حيث يراهم الناس جالسين بصمت، أو نائمين على قارعة طريق، يحملون فوق أكتافهم تجارب قاسية تصعُب روايتها، لكن ما لا يعرفه كثيرون أن من بين هؤلاء من كانوا ذات يوم فاعلين في المجتمع، موظفين أو معلمين او أساتذة جامعات او عسكريين برتب كبيرة ، أو أصحاب مهن حرة، لكنّ تقلبات الحياة، أو الحروب، أو الانهيار النفسي، كل ذلك دفع بهم إلى الشارع، لينضموا إلى صفوف المشرّدين.

وفي الوقت الذي تتسع فيه ظاهرة التشرد بشكل لافت، وتتحول الأرصفة والمساحات العامة إلى مأوى إجباري لمئات من الفقراء والمهمّشين والمصابين بعاهات نفسية، تواصل الحكومة الوقوف موقف المتفرج، دون أن تُبدي أدنى تحرك فعلي لمعالجة هذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة. ورغم ان الدستور ينص على كفالة الدولة حقوق المواطن الأساسية، فإن الواقع يكشف عن هشاشة المنظومة الاجتماعية وغياب خطط الإيواء والرعاية، ما يعكس فشلا ذريعا في اداء مؤسسات الدولة المعنية، وتحديدا في ما يتعلق بواجباتها تجاه الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.

وتعترف وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بتفاقم ظاهرة المشردين في بغداد والمحافظات. وبحسبها فإن عدد المشردين الذين تم رصدهم في البلاد العام الماضي، بلغ 13 ألف حالة.

بين الفساد والإهمال والفقر والمخدرات

يعزو مراقبون للشأن العراقي، تزايد التشرد الى استشراء الفساد والإهمال الحكومي الذي أدى الى تدهور الأوضاع الاقتصادية وانخفاض دخل الأسرة، وارتفاع معدلات البطالة والفقر وتفشي تعاطي المخدرات، وزيادة مستوى العنف الأسري ضد الأطفال.

تحت ظل شجرة في حي الكرادة، يجلس رجل في العقد السادس بثياب رثة ولحية كثة. ويقول رعد الفراتي، وهو صاحب متجر في المنطقة، أن هذا الرجل كان يوماً ما شخصية معروفة، ويملك منزلاً وسيارة، قبل أن ينهار عقب حادث سير أودى بحياة زوجته وولديه، بعدها لم ينطق بكلمة، ولم يعد إلى منزله رغم محاولات متكررة من أقاربه وأصدقائه.

ليست هذه القصة فريدة من نوعها. فالمشهد متكرر في العاصمة، وكل شخص متشرد يُخفي وراءه حكاية، من بين الحكايات تلك التي ترويها أم حسين، وهي خمسينية تبيع شطائر البيض والجبن على عربة بسيطة. إذ تتابع بنظرات حزينة رجلاً يمرّ كل صباح بخطى واهنة.

تقول أم حسين في حديث صحفي: "كان هذا الرجل مدرّساً، وكان رجلاً وقوراً يحترمه الجميع، لكن بعد خلافات أُسَرية، انهارت حياته تماماً، فهاجرت زوجته إلى ألمانيا مع أطفاله، ولم يتحمّل فراقهم، فانسحب من الحياة. وجدناه يوماً نائماً على الرصيف، وهو يقتات على مساعدات بسيطة يقدمها له بعض أصحاب المحال، لكنه لا يطلب شيئاً، يتنقل من مكان إلى آخر فحسب، كمن يبحث عن شيء غائب".

لا برامج حكومية لمعالجة الظاهرة

لم تقدم أي من الحكومات المتعاقبة برامج لمعالجة ظاهرة التشرّد، وسط مطالبات من ناشطين بتوفير دور لإيواء هؤلاء الأشخاص، خاصة الفتيات والنساء منهم. فيما يُحذر الكثيرون من استغلال المشرّدين من قبل عصابات التسوّل والاتّجار بالبشر.

من منطقة الباب المعظَّم، يقول علي خليل، وهو سائق سيارة أجرة، إنه يشاهد يومياً العديد من المشرّدين عند الإشارات أو على الأرصفة، مؤكدا في حديث صحفي أن أحد هؤلاء ساعده في تصليح سيارته عندما تعطلت، دون أن يطلب منه ذلك!

ويحاول البعض، عبر مبادرات فردية، مدّ يد العون للمشرّدين. إذ يشارك الطالب الجامعي يوسف هاشم، متطوعاً في مبادرات خيرية متنوعة، من بينها توزيع الأطعمة على المشرّدين. ويقول: "لا نكتفي بتوزيع الطعام عليهم، بل نتحاور معهم، ونستمع إلى قصصهم. الكثيرون منهم كانوا موظفين، أو لديهم عمل ومكانة في المجتمع، لكن الحياة دفعتهم إلى الشارع بعد صدمات نفسية أو مشكلات تعرضوا لها".

قصص مؤلمة

في شارع السعدون وسط بغداد، يجلس سامي جاسم (43 سنة) إلى جانب صندوق كرتوني يحوي خبزاً يابساً وزجاجة ماء. يتحدث على نحوٍ طبيعي حين سؤاله عن حاله، لكنه يصمت لفترة قبل أن يواصل التعبير عمّا يريد قوله. ويوضح أنه كان عاملاً ماهراً في نجارة البناء قبل أن يتعرض لحادث عمل أدى إلى كسر ساقه.

ويضيف في حديث صحفي قوله: "لم أتلقَ أي تعويض، وصاحب المشروع اختفى. فوجدت نفسي فجأة بلا مأوى، وأصبحت أنام في الشارع، في الشتاء البارد، وفي الصيف الحارق. أفرح حين يترك لي أحدهم كيس خبز أو بطانية".

وتعد مرائب السيارات والحدائق العامة والمباني المهجورة، من أهم الأماكن التي يلجأ إليها المشردون للنوم. وتعتبر مناطق الباب الشرقي والباب المعظم والفضل وشارع السعدون والكفاح وأبو نؤاس وبغداد الجديدة والنهضة والعلاوي، أبرز مقصد للمشردين. ففيها جسور وأنفاق ومحلات وأزقة وساحات عامة تحتوي على بقايا هياكل سيارات أو عربات بيع مختلفة، وهي أمكنة آمنة نسبيا لهم - وفقا لناشطين.

ويلفت هؤلاء إلى أن الخطر الأكبر يتمثل في كونهم هؤلاء المشردين يتزايدون.

يعرف كثيرون في منطقة النهضة، الأربعيني النحيل فاضل، الذي يستقر عادة في مرآب النقل. إذ يتجوّل بين المحال والمطاعم حاملا كيسا قديما فيه ملابس وصورة لوالدته التي يصفها بأنها "كل ما تبقى من حياة سابقة، لكنها ماتت"!

يحرك فاضل رأسه يميناً وشمالاً حين يحاول التحدث، ويبدو أنه تعرّض لصدمة أثرت على سلوكه. ويقول: "البعض يخاف مني، وآخرون يعاملونني جيداً. أجمل ما قد يفعله أحدهم هو أن يسألني ببساطة كيف حالك اليوم؟".

ويُرجع الباحث الاجتماعي مهند الطائي، تفاقم ظاهرة التشرد إلى التغيرات العميقة التي شهدها العراق بعد عام 2003.  ويوضح أن "الانهيار المؤسّساتيّ وغياب الدولة وتفشي الفساد كلّها عوامل ساهمت في دفع فئات من المجتمع إلى البقاء على الهامش".

ويشير في حديث صحفي إلى ان "الأزمات النفسية تلعب دوراً كبيراً أيضاً، سواء تلك الناتجة عن الفقد، ام الطلاق، أم النزوح، أم الإدمان، وكلها مشكلات سجلت ارتفاعاً بنسب خطيرة في المجتمع العراقي، وغالباً ما يتحمل الضحايا المسؤولية وحدهم في نظر المجتمع، رغم أنهم نتاج إخفاقات متراكمة، فردية ومؤسساتية".

دور الإيواء تستغل المشرّدين!

تضم بغداد دارين صغيرتين لإيواء المشردين من كلا الجنسين، لا تكادان تتسعان لبضع عشرات منهم. وتعاني الداران قلة الدعم وسوء الأوضاع المعيشية، فضلا عن وجود اتهامات باستغلال المشرّدين من قبل حراس الدارين، ما يجعل الكثيرين يفضلون العيش في الشارع على العيش هناك – حسب ما تُفيد به وكالات أنباء.

الباحث الاجتماعي علي السعيدي، يقول في حديث صحفي أن "ظاهرة التشرّد لم تكن منتشرة بهذه الصورة من قبل. فبرغم وجود أسبابها كانت الحكومة توفر لهم ملاذا ومأوى ولا تسمح بالنوم في الشارع"، مضيفا أن "شوارع بغداد اليوم تضم أعدادا كبيرة من المشردين، وتتحمل الحكومات المتعاقبة مسؤولية ذلك".