اخر الاخبار

في ظل صمت حكومي مستمر، تتفاقم أزمة المياه في محافظة البصرة يوماً بعد آخر، لتتحول من مشكلة بيئية إلى تهديد وجودي حقيقي لحياة السكان وصحتهم. شط العرب، الذي كان يوماً شرياناً حيوياً للعراق، بات اليوم مجرى مائياً ملوثاً ينذر بكارثة بيئية شاملة.

يؤكد مراقبون أن النهر لم يعد قادراً على أداء دوره الطبيعي، بعد أن اجتمعت عليه الملوثات القادمة من الشمال، وامتد إليه اللسان الملحي من الجنوب، وتدفقت فيه النفايات الصناعية والطبية والصرف الصحي غير المعالج. ومع تناقص الإطلاقات المائية، وانعدام التخطيط الاستراتيجي، تتعاظم المخاطر الصحية التي بدأت تظهر فعلياً على شكل حالات تسمم وأمراض سرطانية بين السكان.

غياب المعالجات الفعالة

يقول د. جاسم المالكي، عضو المكتب الاستشاري الهندسي لنقابة المهندسين الزراعيين/المقر العام، إن هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة الأمد تفاقمت بفعل تراجع التصريف المائي وغياب المعالجات الفعالة.

ويشرح المالكي لـ "طريق الشعب"، قائلاً أن "الموقع الجغرافي لشط العرب، كونه المصب النهائي لنهري دجلة والفرات، جعله مستقبلا للملوثات القادمة من جميع المحافظات الواقعة على امتداد النهرين، من الشمال وحتى الجنوب. ومع انخفاض معدلات التصريف المائي، بات النهر عاجزًا عن طرد هذه الملوثات إلى الخليج العربي، ما أدى إلى تراكمها في مجرى النهر".

ومن أبرز مصادر التلوث التي أشار إليها المالكي، هو توغل اللسان الملحي القادم من الخليج العربي إلى داخل مجرى شط العرب، خاصة في فترات انخفاض التصاريف المائية. هذا التوغل أدى إلى فقدان النهر لتنوعه الحيوي، وأثر بشكل خطر على الثروة السمكية، والزراعة، لا سيما في مناطق الفاو، السيبة، وأبو الخصيب.

ويضيف المالكي، أن هناك مصدرا داخليا آخر للتلوث يتمثل في مياه الصرف الصحي التي تُلقى مباشرة في النهر دون معالجة كافية، سواء عبر شبكات المجاري أو الأنهار الفرعية التي تحولت إلى مكبات للنفايات السائلة. هذا النوع من التلوث يشكل تهديدًا مباشرًا على الصحة العامة للمواطنين.

كما أشار إلى أن مياه البزل الزراعي تعد من المصادر المهمة للتلوث أيضا، إذ تسهم في رفع نسبة الملوحة نتيجة انعدام وجود مبازل فعالة. وتفاقم المشكلة عند حدوث حالات المدّ العالي التي تدفع المياه المالحة إلى مجرى النهر، مما يزيد من تراكيز الأملاح.

ويختتم المالكي حديثه بأن الوضع الراهن لشط العرب يتطلب تدخلا حكوميا عاجلا وتخطيطا استراتيجيا جادا لإنقاذ هذا النهر الحيوي من كارثة بيئية شاملة باتت تلوح في الأفق

الناشط البيئي توفيق دريد، من أبناء المدينة، يصف المشهد بانه "مأساوي"، مشيرا إلى أن أكثر من عشرة الاف شخص تعرضوا للتسمم على مدار السنوات الأخيرة بسبب اعتمادهم على مياه غير صالحة للشرب، تأتي من مركبات حوضية حكومية تفتقر إلى الحد الأدنى من معايير السلامة الصحية، وأبرزها نقص نسبة الكلور المستخدم في تعقيم المياه بمحطات التحلية.

ويحذر دريد من أن التلوث النفطي في شط العرب أصبح اليوم تهديدا مباشرا ليس فقط لصحة الإنسان، بل للثروات الطبيعية كذلك. إذ تنتشر بقع الزيت الأسود على سطح المياه، مشكلةً سحابة سامة تخنق الحياة المائية وتدفع السكان للبحث عن مصادر مياه بديلة، غالبًا ما تكون باهظة الثمن أو ملوثة بدورها.

الخطر لا يتوقف عند النفط، فهناك خلل كبير بحسب دريد  في كيفية إدارة الموارد المائية، مع تسجيل تجاوزات من قبل بعض الجهات الحكومية والخاصة، أبرزها تفريغ المخلفات الصناعية والطبية ومياه الصرف الثقيل مباشرة في الأنهار، من دون أي معالجة بيئية.

٢٠٠٠ إصابة بالسرطان

كشف مركز الأورام السرطانية في البصرة مطلع العام الجاري عن تسجيل اكثر من 2000 إصابة جديدة بالسرطان سنويا، وأشار المركز إلى أن معدل الإصابات يزداد بنسبة 10 في المائة سنويا، وتوقع أن يصل العدد إلى 2,400.

وقال عضو مجلس محافظة البصرة، جعفر الحجاج، إن الوضع المائي في المحافظة يشهد تدهورا كبيرا، مؤكدا أن مياه شط العرب أصبحت ملوثة إلى درجة تسبب التسمم، وذلك نتيجة قلة الإطلاقات المائية الواصلة إلى المحافظة.

وأوضح الحجاج في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "البصرة تقع في نهاية مجرى نهر دجلة، ولا تصلنا من الإطلاقات المائية إلا كميات قليلة جدا، بسبب التجاوزات على النهر من قبل بعض الفلاحين وأصحاب البحيرات والثروة السمكية، سواء داخل العراق أو خارجه"، مشيرا إلى أن اعتماد المحافظة شبه الكامل حاليا على ظاهرتي المد والجزر يزيد من تعقيد المشكلة.

وأكد أن مجلس المحافظة يعمل على عدة محاور، من بينها مراقبة مناسيب نهري دجلة والفرات، والتواصل مع محافظة ميسان لضمان الحصص المائية، إضافة إلى المضي قدما في إنشاء محطات لتحلية المياه ووحدات معالجة جديدة، بعضها ما يزال قيد الإنشاء.

وأضاف، ان "هناك تحركا فعليا، وعقدنا جلسات مع مديرية الموارد المائية، كما خاطبنا وزارة الموارد المائية من أجل إيجاد حلول جذرية وسريعة لأزمة المياه في البصرة".

البصرة.. مكب للمياه الملوثة

ويقول مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة، مهدي التميمي، إن "المحافظة تواجه خطراً بيئياً يتمثل في التلوث الكبير لمياهها، وسط تجاهل حكومي واضح، وفشل مستمر في التوصل إلى حلول مائية مع دول الجوار".

وتابع التميمي، أن "البصرة تحولت إلى مكب مائي للنفايات الثقيلة والسامة، في ظل ارتفاع كبير لنسب الملوحة والتلوث في مياه شط العرب، دون أن يرافق ذلك أي تحرك جدي من الجهات الرسمية".

وأضاف أن "المشاريع التي وعدت بها الحكومتان الاتحادية والمحلية بقيت معلقة، في وقت تستأثر فيه شركات التراخيص النفطية بالمياه العذبة لاستخدامها في حقن الآبار النفطية، ما فاقم من معاناة السكان".

وبيّن أن "المناطق الواقعة شمال البصرة تُعد الأكثر تضرراً من هذه الكارثة البيئية، نظراً لعدم وجود منظومات صرف صحي فيها، الأمر الذي يؤدي إلى تصريف المياه الثقيلة مباشرة في الأنهار، وهي المصدر الوحيد لمياه الشرب والاستخدام اليومي للسكان".

وكشف التميمي أن "المكتب سجل مئات الإصابات في صفوف المواطنين، بأمراض جلدية ومعوية خطرة، إلى جانب حالات سرطانية يُرجح ارتباطها المباشر بالتلوث المتفاقم في المياه".

واختتم التميمي بالقول: "ندعو الحكومة إلى تشكيل خلية أزمة بشكل فوري، وإعلان حالة الطوارئ في البصرة، والخروج ببيان واضح للرأي العام يتضمن خطوات واقعية وعاجلة لاحتواء الأزمة قبل أن تصل إلى مرحلة الانفجار وتتحول إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة".

عرض مقالات: