في ساحات المدارس وصفوفها، حيث يُفترض أن تنمو الطفولة بأمان، تختبئ ظلال قاسية لا تُرى بسهولة.. تنمّرٌ صامتٌ يُشعر التلاميذ بدونيّة ويترك فيهم ندوبا قد لا تندمل. فبين زميل يسخر وآخر يدفع وثالث يُقصي، يتحوّل اليوم الدراسي إلى ساحة صراع نفسيّ، يخرج منها المتنمَّر عليه أكثر هشاشة، وأقل إيمانًا بنفسه. فهل أصبح التنمّر سلوكًا عابرًا أم مرضًا متفشّيًا؟ وكيف تتعامل المدارس مع هذه الآفة الصامتة؟ وما الذي يجعل التلميذ متنمرا: التربية المنزلية، أم الشارع، أم ضغوط نفسية؟!
يؤكد العديد من الأهالي أن أبناءهم يتعرضون إلى سلوكيات مؤذية من زملائهم في المدارس، تتراوح بين السخرية والتهميش، وتمتد أحياناً إلى أشكال أكثر قسوة ترتبط بالهوية أو المظهر الجسدي. وداخل الصفوف الدراسية يقف المعلمون في مقدمة المواجهة اليومية مع التنمر. فهم الأكثر معرفة بتفاصيل الحياة اليومية للتلاميذ، ويرون بأعينهم ما قد يغيب عن الأهل أو الإدارات.
وليس التنمر في المدارس ظاهرة غريبة أو جديدة. فمثل هذا السلوك طبيعي بين الأطفال، لكن المقلق في الأمر، هو بلوغه مستويات غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة – وفق ما يؤكده تربويون.
الطائفية تدخل على الخط!
تقول فاطمة مزهر، وهي معلمة في مدرسة ابتدائية في بغداد، أن "التنمر ليس ظاهرة نادرة كما يظن البعض، بل موجودة في كل زمان ومكان. لكن المشكلة انها باتت تزداد خلال السنوات الأخيرة. إذ يشتكي التلاميذ كثيراً من تعرضهم لعنف لفظي يصل أحياناً إلى عنف جسدي، ويتلقى بعضهم إساءات لفظية بسبب أشكالهم أو أسمائهم أو ملابسهم، أو بسبب ضعف مستواهم العلمي"، مبينة في حديث صحفي أن "بعض من يتعرضون للتنمر يفقدون أعصابهم ويردون على المتنمرين بالضرب أو بتحطيم الأشياء، ما يجعل الحالة تصل إلى عنف متبادل".
وتشير إلى أن "الأخطر هو انعكاس المواضيع السلبية التي يتناولها المجتمع أو المشكلات التي مرت بها البلاد خلال السنوات الماضية، في سلوكيات التنمر. فهناك تلاميذ يصوغون عبارات مُقلقة، منها ما يحمل ألفاظا طائفية انتشرت داخل المجتمع جراء الخلافات السياسية".
انعكاس الفهم المجتمعي للتعددية والاختلاف
تملك مرشدات تربويات يعملن في كواليس المدارس رؤية عميقة لحالات التنمر من خلال تواصلهن المباشر مع التلاميذ في جلسات الدعم والإرشاد النفسي. هذا ما تؤكده المرشدة التربوية هدى علي.
إذ تقول في حديث صحفي أنه "واجهت خلال عملي حالات عدة من التنمر بين التلاميذ كان بعضها صادماً.
رأيت تلاميذ يتعرضون لسخرية بسبب لهجتهم أو ملابسهم، وآخرين يواجهون التنمر الديني أو الطائفي، حتى إنه جرت مضايقة طالبة محجبة بسبب التزامها الديني. ويعكس هذا التنوع في أشكال التنمر هشاشة في الفهم المجتمعي للتعدد والاختلاف".
وتشير هدى إلى أن "العديد من المدارس تحتاج إلى فرق نفسية مدربة تستطيع التعامل مع الحالات مبكراً. علماً أن بعض التلاميذ لا يعرفون أنهم يتعرضون لتنمر، ويشعرون فقط بحزن وقلق من دون أن يفهموا السبب، لذا من واجبنا بصفتنا خبراء في الصحة النفسية أن نعلمهم كيف يعبرون عن مشاعرهم، ويطلبون مساعدة". وبالانتقال إلى المنازل التي تعكس غالباً ما يحدث داخل أسوار المدارس، يلاحظ الآباء والأمهات أحياناً كثيرة تغيّرات مفاجئة في سلوك أبنائهم.
تقول حسناء جمال الدين، وهي والدة طفل عمره 11 سنة: "تعرّض ابني لتنمر جسدي ولفظي في مدرسته الابتدائية، وكان يعود من المدرسة وهو صامت، ثم أصبح يصرخ لأبسط الأسباب، ويرفض أن يذهب إلى المدرسة. ظننت في البداية أنه مدلل ثم اكتشفت لاحقاً أن مجموعة من التلاميذ تسخر منه لأنه سمين، وتضربه أحياناً. اضطررت لنقله إلى مدرسة خاصة، وتحسنّت حالته تدريجاً".
آثار مزمنة
ولأن الطفولة هي المرحلة الأهم في بناء الشخصية، يرى خبراء أن ترك هذه الظاهرة من دون مواجهة قد يخلّف أثراً مزمناً على الصحة النفسية للأجيال القادمة، ويساهم في إنتاج مجتمع مثقل بالعقد تسوده الانطوائية أو العدوانية.
يقول اختصاصي الطب النفسي فارس موفق: "يؤثر التنمر في صحة الأطفال النفسية ومستقبلهم في حال لم يستطيعوا تجاوز الحالة التي يمرون بها. التنمر بحد ذاته سواء كان داخل المدرسة أم خارجها يعدّ من أبرز أسباب التوتر النفسي لدى الصغار"، مبينا في حديث صحفي أن "التنمر المدرسي، بأشكاله المتعددة، لم يعد مجرد مشادات عابرة بين التلاميذ، بل أصبح معولاً ينخر في النسيج التربوي ويهدد بنشوء جيل يفتقد الثقة في نفسه والشعور بالأمان، وهذا ما نتحدث عنه باستمرار مع أولياء الأمور". ويضيف قائلا: "ألاحظ كثيراً ازدياد حالات الاكتئاب والقلق بين الأطفال، ويرتبط كثير منها ببيئة المدرسة. الطفل الذي يتعرض لتنمر يشعر بالعجز، وقد يطور شعوراً بالكراهية تجاه المجتمع أو المدرسة، وربما يتحوّل لاحقاً إلى متنمر إذا لم يتلقَ العلاج والدعم". ويشير موفق إلى أن "التنمر لا يؤثر فقط في اللحظة، بل يترك بصمة طويلة الأمد في شخصية الفرد. الأطفال الذين يتعرضون لتنمر يعانون غالباً ضعفا في المهارات الاجتماعية، وانخفاض ثقتهم في أنفسهم، وقد يصبحون في المستقبل أقل قدرة على تحمل الضغوط أو التفاعل السليم مع الآخرين، وهذا يؤثر بالتالي على مجتمعنا الذي يعاني أساساً مشكلات مختلفة جراء الظروف المعيشية والاقتصادية".