في زوايا المقاهي، وعلى أطراف الأرصفة، وحتى في البيوت، بات مشهد الأركيلة الإلكترونية التي يطلق عليها في الشارع اسم "فيب" مألوفا بين أيدي الفتيان والشباب والشابات، الذين انجرفوا خلف موجة جديدة من الإدمان، صامتة المظهر وخطيرة الأثر.
الباحثة الاجتماعية بلقيس الزاملي أعربت لـ "طريق الشعب"، عن قلقها من الانتشار المتسارع لهذه الظاهرة، قائلة: "باتت الأركيلة الإلكترونية منتشرة بين الفئة العمرية من 15 عاما وحتى أواخر العشرينات بشكل يدعو للقلق. لم تعد مجرد عادة، بل تحولت إلى نوع من الإدمان، تغذيه ثغرات رقابية واضحة وغياب المتابعة الأسرية."
وأضافت الزاملي، أن هذا الانتشار يعود إلى عوامل عدة، من أبرزها انشغال الأهل وتراجع الدور التربوي داخل الأسرة، فضلا عن غياب أنظمة رقابة فعالة داخل العراق تواكب هذا النوع من التهديدات الحديثة.
وتابعت، ان "التكنولوجيا التي كان يفترض أن تكون رافدا إيجابيا، أضحت في بعض الحالات نقمة، خاصة حين تُستغل لأغراض تجارية من دون وعي مجتمعي أو ضوابط تحمي الفئات الهشة كالأطفال والمراهقين"، مشددةً على أهمية تفعيل دور المؤسسات التعليمية والمهنية، وتكثيف حملات التوعية داخل المدارس وأماكن العمل، للحفاظ على صحة الشباب النفسية والجسدية، وتعزيز القيم الدينية والاجتماعية التي تُعد أساسا في بناء شخصية الفرد.
استدراج الأطفال والشباب
من جهة أخرى، دقت دراسات حديثة ناقوس الخطر، محذرة من أن الشبان الذين يبدأون باستخدام الأركيلة الإلكترونية في سن مبكرة، يصبحون أكثر عرضة بثلاثة أضعاف للانتقال لاحقًا إلى تدخين السجائر التقليدية، مما يضاعف من احتمالات الإصابة بأمراض مزمنة في مراحل لاحقة من العمر.
"يتم استدراج الأطفال نحو هذه الأجهزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مستغلين فضولهم الطبيعي بأكثر من 16 ألف نكهة وتصميمات كرتونية جذابة،" تقول منظمة الصحة العالمية داعية الحكومات إلى اتخاذ خطوات صارمة وسريعة لوقف هذا الانحدار، قبل أن يتحول إلى كارثة صحية واجتماعية واسعة النطاق.
مطلوب برامج توعية
يقول خضر عباس محمد مدرس في ثانوية للبنين، انه "في السنوات الأخيرة، لاحظنا ظاهرة متزايدة بين الشباب وطلاب المرحلتين المتوسطة والإعدادية، حيث أصبح استخدام الأركيلة الإلكترونية أو الفايب بديلاً عن السجائر التقليدية في أوساط المراهقين. وهذا يشير إلى أن الأركيلة لم تعد مجرد وسيلة للتسلية أو مظهر اجتماعي، بل أصبحت جزء من سلوكيات بعض الطلاب اليومية، على الرغم من خطورتها الصحية والنفسية".
وأضاف لـ "طريق الشعب"، إن "الشباب في هذه المرحلة العمرية يتأثرون بالثقافة السائدة في المجتمع، والعديد منهم يعتقد أن استخدام الفيب هو مجرد موضة أو وسيلة للتعبير عن الهوية الاجتماعية. لكن ما لا يدركونه هو أن هذه العادات قد تؤثر على صحتهم العقلية والجسدية في المستقبل".
وقال إن وجود الأركيلة في أماكن عامة بالقرب من المدارس أو في التجمعات الشبابية يعزز من هذه الظاهرة، حيث يجد الطلاب أنها وسيلة للتقرب من بعضهم البعض والتفاخر أمام أقرانهم، دون أن يكون لديهم الوعي الكامل بأضرارها.
وأضاف أنه من المهم أن تلتفت الجهات المعنية، سواء كانت المدارس أو الأسر، إلى هذه الظاهرة وتعمل على توعية الشباب حول المخاطر الصحية وضرورة الحفاظ على نمط حياة صحي. وبالتالي، يجب أن يتعاون الجميع للتقليل من هذه الظاهرة عبر برامج توعية موجهة للأطفال والشباب في المدارس. وأخيرا، نحتاج إلى إجراءات فعّالة من قبل المسؤولين لتنظيم استخدام الأركيلة، خاصة في الأماكن العامة القريبة من المؤسسات التعليمية، للحفاظ على صحة الأجيال القادمة.
حملات تفتيش
وأشار إلى أن "المدرسة تجري حملات تفتيشية بين فترة وأخرى، يتم خلالها مصادرة جميع الأركيلات الإلكترونية التي يتم العثور عليها، مع توجيه تحذيرات للطلبة المخالفين."
وبين أن "الباحث الاجتماعي في المدرسة يقدم محاضرات دورية لأولياء الأمور، تتناول مخاطر الفيب، مع التأكيد على ضرورة متابعة الأبناء بشكل مستمر".
عوامل بيئية واجتماعية
يقول أحمد مهودر، باحث نفسي واجتماعي، إن "من منظور علم النفس، يمكن النظر إلى استخدام الفيب بين المراهقين كاستجابة معقدة لعوامل متعددة تتمثل في الرغبة في إثبات الذات، تقليد الأقران، ومحاولة خلق هوية مميزة في هذه المرحلة الحساسة من النمو". وأضاف مهودر أن المراهق في هذه المرحلة يواجه صراعات داخلية بين الاستقلال والانتماء، وبين التمرد والقبول، مما يدفعه نحو سلوكيات قد يراها تعبيرا عن البلوغ أو الحرية الشخصية.
وتابع مهودر في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "العوامل البيئية تلعب دورا جوهريا أيضا، مثل ضعف الرقابة الأسرية، ووجود نماذج قدوة سلبية، والضغوط الأكاديمية والاجتماعية المتزايدة، وكلها تسهم في دفع المراهق نحو تعاطي الفيب كوسيلة تفريغ أو تكيف".
وأكد مهودر أن هناك تصورا شائعا ومضللا بين المراهقين بأن الفيب أقل ضررا من السجائر التقليدية، وهو ما يعكس نقصا في الوعي الصحي والنفسي. وأشار إلى أن هذا التصور يجد جذوره في الحملات التسويقية التي تروج له كـ"خيار صحي" أو "خال من التبغ"، وهو ما يعزز سلوك المجازفة لديهم، ويقلل من استجابتهم لمصادر التحذير الرسمية.
وأضاف مهودر، أن هذا الوهم بالأمان يُعد أحد أخطر العوامل النفسية التي تدفع المراهقين لاستخدامه بشكل متزايد.
وتابع مهودر قائلا: "تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورا محوريا في تطبيع الفيب، خاصة عبر المنصات التي تسمح بمشاركة الصور والفيديوهات، حيث يقدم على أنه سلوك عصري وجذاب، مرتبط بالحرية والتمرد والاستقلالية".
وأشار إلى أن هذا التقديم يخلق تأثير "المقارنة الاجتماعية"، حيث يشعر المراهقون بضرورة تقليد ما يرونه من سلوكيات منتشرة بين المؤثرين أو الأقران. وأكد أن غياب الرقابة على المحتوى الرقمي يسمح بانتشار رسائل تشجع على الاستخدام دون إبراز مخاطره، مبينا أن "الاستخدام المبكر للاركيلة الالكترونية يرتبط باضطرابات في المزاج، ضعف الانتباه، وتدهور في القدرات المعرفية، نتيجة تأثير النيكوتين على الدماغ الذي لا يزال في طور النمو". وتابع قائلا: "أظهرت الدراسات أن التعرض للنيكوتين في مرحلة المراهقة قد يغير دوائر المكافأة في الدماغ، مما يزيد من قابلية الإدمان لاحقا". وأكد أن التعلق المبكر قد يساهم في تطوير أنماط سلوكية اعتمادية وضعف في استراتيجيات التكيف النفسي.
السجائر والقلق والاكتئاب
وبين أن الأدبيات النفسية تشير إلى علاقة وثيقة بين استخدام الفيب والسجائر عموما وارتفاع مستويات القلق، التوتر، وحتى أعراض الاكتئاب بين المراهقين، مؤكدا أن المراهقين الذين يستخدمون الفيب بشكل منتظم يعانون من معدلات أعلى من الاضطرابات الانفعالية مقارنةً بأقرانهم غير المستخدمين.
واكد انه من وجهة نظر علم النفس الإكلينيكي، أن الفيب يمكن اعتباره إحدى اليات الدفاع أو "الهروب الانفعالي" المستخدمة من قبل المراهقين لمواجهة الضغوط اليومية، سواء كانت ضغوطًا أسرية، دراسية، أو اجتماعية.
وخلص الى أن الفيب يستخدم كشكل من أشكال التهدئة الذاتية، وقد يصبح بمرور الوقت نمطا اعتياديا للهرب من القلق أو الإحباط، وهو ما يُضعف من مرونة الفرد النفسية.