اخر الاخبار

في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية وتفاقم معدلات البطالة، تواصل الحكومة اعتماد سياسة التوظيف في القطاع العام كوسيلة لامتصاص الضغط الشعبي وتوفير فرص العمل، لا سيما للخريجين والأوائل وحملة الشهادات العليا. وبينما تستعد مؤسسات الدولة لإطلاق آلاف الدرجات الوظيفية الجديدة، تتصاعد التحذيرات من خبراء اقتصاديين وسياسيين بشأن الآثار طويلة الأمد لهذا النهج، والذي يتهم بتكريس البطالة المقنّعة وتضخم الجهاز الإداري دون مردود إنتاجي حقيقي.

تأتي التعيينات الحكومية الأخيرة، التي تشمل نحو 8000 درجة وظيفية ضمن المرحلة الثالثة التي أعلن عنها مجلس الخدمة الاتحادي، في سياق استمرار اعتماد الدولة على القطاع العام كمنفذ أساسي لمعالجة مشكلة البطالة بين الشباب، ولا سيما الخريجين والأوائل وحملة الشهادات العليا.

ورغم أهمية هذه التعيينات في تلبية تطلعات شرائح واسعة من الباحثين عن العمل، إلا أن استمرار هذا النهج يسلط الضوء على تحديات هيكلية أعمق، تتمثل في تضخم الجهاز الإداري، وضعف قدرة المؤسسات على استيعاب الطاقات البشرية بما يوازي حاجتها الفعلية.

مرحلة ثالثة من التعيينات

أعلن مجلس الخدمة الاتحادي، في نهاية شهر نيسان الماضي، عن استكمال تقريره الخاص بتعيينات الأوائل وحملة الشهادات العليا، تمهيدًا لرفعه إلى مجلس الوزراء لاستحصال الموافقة النهائية. وأوضح المتحدث الرسمي باسم المجلس أن توزيع العناوين الوظيفية تم وفقاً لاحتياجات مؤسسات الدولة، وبإسناد مباشر من رئيس مجلس الوزراء، استعداداً لإطلاق المرحلة الثالثة من التعيينات، والتي تتضمن ثمانية آلاف درجة وظيفية جديدة.

وأشار إلى أن المجلس بانتظار التوجيه الرسمي لفتح منظومة الكودات، تمهيدا لبدء مرحلة جمع بيانات المشمولين بالتعيين.

الأولوية لـمن؟

وسبقها اعلان محافظ بغداد، عبد المطلب العلوي، في شهر آذار الماضي، أن عدد الدرجات الوظيفية المخصصة للمحافظة يبلغ 37 ألف درجة، موضحاً أنها لا تتعلق بتمويل الأمن الغذائي، بل خُصصت حصراً لمحافظة بغداد.

وأضاف أن نحو 22 ألف درجة تم تخصيصها لقاطع الرصافة، فيما تبقّى ما يقارب 15 ألف درجة، تم استثناء أكثر من 1500 درجة منها لتعيين عقود تنمية الأقاليم والتربويين، وقد تم بالفعل تعيينهم وتوزيعهم.

وأطلقت محافظة بغداد، يوم أمس، الشروط التي يجب توفرها في المتقدمين على تلك العقود.

وتقول مصادر مطلعة لـ"طريق الشعب"، أن رئيس الوزراء وجه باعطاء الاولوية في التعيين للفرق التطوعية، مبينا أن غالبية تلك الفرق ترتبط بتيار الفراتين الذي يتزعمه السوداني.

نهج غير مستدام

حذر دكتور في الاقتصاد نوار السعدي من استمرار تفاقم البطالة المقنعة في العراق، مشيراً إلى أنها تمثل أحد أبرز مظاهر الخلل في بنية الاقتصاد الوطني، وخصوصاً في القطاع الحكومي، الذي يعاني من تضخم عددي مقابل ضعف واضح في الإنتاجية.

وفي حديث لـ "طريق الشعب"، قال السعدي إن "اعتماد الحكومة على سياسة التوظيف الحكومي لامتصاص البطالة، كما هو الحال في التعيينات المرتقبة لـ8000 درجة وظيفية، يعكس نهجاً اقتصادياً غير مستدام". وأكد أن "هذا التوسع الإداري يتم دون حاجة فعلية لهذه الوظائف أو خطط لتوظيف الطاقات في تحسين الأداء المؤسسي".

وأضاف أن ما يشهده العراق اليوم هو نتيجة تراكم سنوات من الاعتماد شبه الكامل على الدولة كمصدر للتوظيف، في ظل غياب دور حقيقي للقطاع الخاص، وافتقار بيئة الاستثمار للقدرة على خلق فرص عمل منتجة. ولفت إلى أن "الوظيفة الحكومية باتت يُنظر إليها اجتماعياً كضمان اقتصادي أكثر من كونها مسؤولية ومهام وظيفية، وهو ما أسهم في تفشي مظاهر البطالة المقنّعة، وأدى إلى إنهاك الموازنة العامة التي تستهلك فيها الرواتب والمخصصات نحو 75 في المائة من الإنفاق الحكومي".

السعدي أشار إلى أن جذور الأزمة تتشابك بين الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، موضحاً أن "التعيينات تُستخدم في كثير من الأحيان لأغراض شعبوية أو كوسيلة لمكافأة جهات سياسية، بعيداً عن معايير الكفاءة أو الاحتياج المؤسسي". كما انتقد غياب استراتيجية حقيقية لتطوير القطاع الخاص، وضعف منظومة التعليم العالي والمهني التي لا تواكب متطلبات سوق العمل.

وحول سبل الحل، دعا السعدي إلى "ضرورة إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة عبر خطة تدريجية لإعادة توزيع الموظفين وتدريبهم بما يتناسب مع احتياجات المؤسسات". كما شدد على أهمية "إطلاق حوافز قوية لتحفيز القطاع الخاص، تتضمن تسهيلات ضريبية وقانونية وضمانات استثمارية، إلى جانب دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة باعتبارها ركيزة لتوفير فرص عمل جديدة".

واعتبر السعدي أن إصلاح النظام التعليمي يمثل أحد المفاتيح الأساسية لحل الأزمة، من خلال "مواءمة المناهج والتخصصات مع متطلبات السوق، والتركيز على التعليم المهني والتقني بدلاً من التخصصات النظرية". كما دعا إلى تعزيز ثقافة ريادة الأعمال والعمل الحر بين الشباب، وتشجيعهم على الابتكار بدلاً من انتظار وظيفة حكومية قد لا تأتي.

سوء توزيع الموظفين

وقال المحلل الاقتصادي حسنين تحسين، أن جذور أزمة البطالة في العراق لا تكمن فقط في نقص فرص العمل، بل في سوء توزيع الموظفين على الوزارات، ما أدى إلى تفاقم البطالة المقنّعة داخل القطاع الحكومي.

وأوضح تحسين لـ "طريق الشعب"، أن "أكثر من 50 في المائة من الموظفين الحكوميين ينتمون إلى الأجهزة الأمنية"، مشيراً إلى أن "الكثير من الأفراد انضموا لهذه الأجهزة بحثاً عن الاستقرار المالي، في ظل غياب فرص حقيقية في القطاعات الإنتاجية".

وبين أن الوزارات الإنتاجية تعاني من نقص حاد في الكوادر البشرية نتيجة للإهمال الذي طال هذا القطاع منذ عام 2003، وهو ما فاقم الفجوة بين الوزارات الخدمية والأمنية من جهة، والقطاعات الاقتصادية الأساسية من جهة أخرى.

وأشار إلى أن السوق العراقية تعيش حالة من الفوضى، حيث تتقاطع فيها البطالة الظاهرة مع المقنّعة، ما يخلق بيئة اقتصادية غير مستقرة ويزيد من الأعباء على الدولة والمجتمع.

وأضاف أن "إطلاق درجات وظيفية جديدة أو إلغاء وظائف ليس حلاً جذرياً، بل المطلوب هو إعادة توزيع القوى العاملة وفقاً لحاجة كل مؤسسة وقطاع"، مشدداً على ضرورة بناء سياسة تشغيل واقعية تضمن استثمار الطاقات البشرية بشكل متوازن يخدم التنمية الاقتصادية.

لا أثر إنتاجيا ملموسا

فيما يقول الناشط السياسي علي القيسي إن ملف التوظيف في العراق يعاني من فشل واضح في الإدارة والتخطيط، مشيرا إلى أن ما يحدث اليوم هو إنتاج لبطالة مقنعة تُرهق مؤسسات الدولة وتستنزف مواردها دون فائدة حقيقية.

وأضاف القيسي لـ "طريق الشعب"، أن "التعيينات تُمنح غالبا دون حاجة فعلية، أو رؤية واضحة، ما يجعلها مجرد أرقام تُضاف إلى الكادر الوظيفي دون أثر إنتاجي ملموس".

وتابع القيسي أن هذا التخبط لا يغد خللا إداريا فحسب، بل بات يستغل لأغراض انتخابية من قبل بعض الأطراف السياسية، التي تُطلق وعودا بالتعيين لكسب الشارع، في حين أن تلك الوعود لا تستند إلى خطط اقتصادية مدروسة.

وقال إن هذه الممارسات تسهم في تعميق أزمة الثقة بين المواطنين والمؤسسات، مؤكدا أن أي إصلاح حقيقي يجب أن يبدأ من تقييم شامل لاحتياجات الدولة من الوظائف، واعتماد اليات توظيف قائمة على الكفاءة والعدالة، لا الولاءات والانتماءات.

وختم القيسي بالتأكيد على أن استمرار هذا النهج لن يؤدي إلا إلى مزيد من الإحباط لدى الشباب، وتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.

عرض مقالات: