بفعل مشاريع أطلقتها الحكومة خلال السنوات الماضية، فضلا عن تجاوزات من جهات أهلية وأخرى نافذة، تغيّرت ملامح خريطة بغداد العمرانية بشكل واضح جدا. إذ توسعت أحياء قديمة على حساب هويتها العمرانية، وجرى تأسيس أخرى جديدة على أطراف العاصمة، فضلاً عن تمدد الأحياء العشوائية، ما خلق حالة من عدم الارتياح لدى السكان، لا سيما بعد تقلّص المساحات الخضراء بشكل كبير إثر تحويلها إلى مشاريع تجارية وسكنية.
وبينما نفذت الحكومة عددا من المشاريع لفك الاختناقات المرورية، لم يلمس سكان بغداد أي جدوى من تلك المشاريع. إذ لا تزال الاختناقات قائمة وتتفاقم يوما بعد آخر، ما يشكل صعوبات يومية في التنقل – وفق ما يؤكده كثيرون عبر وسائل إعلام وصفحات على مواقع التواصل.
ويرى مراقبون أن التغيير العمراني الذي طرأ على بغداد، كان في معظمه غير خاضع لأي تنظيم أو تخطيط هندسي علمي، لكنه كان طبيعياً في ظل تزايد توافد المواطنين إلى العاصمة من محافظات أخرى بحثا عن فرص عمل، إلى جانب اتساع أزمة السكن وإهمال الدولة مشاريع قوانين تقضي بمنح المواطنين قطع أراض نظامية على مسافة غير قريبة من مركز العاصمة.
المفارقة هي أن بغداد، بالرغم من كونها تصنف على مدار سنوات كواحدة من أسوأ المدن في العالم يمكن العيش فيها، إلا ان إيجارات وأسعار العقارات تشهد ارتفاعاً متواصلاً. حيث بات امتلاك منزل أو استئجار شقة حلماً للكثيرين من البغداديين، ما دفع قسما كبيرا منهم إلى التوجه نحو المنازل العشوائية على أطراف المدن، وفي مساحات تفتقر للخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والصرف الصحي.
ويعاني سكان بغداد تردي البنية التحتية، التي لم تخضع لتحديث أو تطوير يذكر منذ 2003. إذ طرأت عليها جملة من المشكلات، أبرزها الاختناقات المرورية التي يقضي بسببها المواطنون ساعات طويلة على الطرق، فضلا عن العشوائيات والتجاوزات على الأملاك الخاصة والعامة من قبل عصابات أو جماعات على علاقة بجهات نافذة ومسلحة، وانهيار منظومات الخدمات، كالكهرباء والصرف الصحي وماء الشرب، بفعل زيادة الضغط والتجاوز.
وفي ظل هذا التخبّط العمراني، انحسرت المساحات الخضراء في بغداد. حيث غصّت المدينة بكتل كونكريتية مكتظة، تغيب عنها حتى الحدائق الصغيرة. هذا بالإضافة إلى ما تعانيه العاصمة من تلوّث حاد في الماء والهواء.
تشويهات لدواع انتخابية!
في حديث لوكالة أنباء "العربي الجديد"، يقول النائب السابق عن بغداد حسين عرب، أن "العاصمة تشهد تجاوزات كثيرة في مجالات شتى، وتغيّر شكلها لا علاقة له باتجاه البناء العمراني وفق تخطيطات منطقية، بل يحدث عبر مخططات بعضها انتخابي"، مضيفا أن "ما يحدث في بغداد من تشوهات سببه سوء التنظيم والتخطيط، واتساع الأحياء العشوائية الذي زاد الضغط على الخدمات المتردية أصلاً".
ويلفت إلى أن "هناك جهات متنفذة تقف وراء بعض التجاوزات التي تحدث يومياً، وتحديداً ما يتعلق بالقرارات، والمواطن يعاني كثيراً صعوبات الحياة اليومية، وإذا أجرينا استفتاءً حقيقياً فسنجد أن كثيرين يفكرون جدياً في مغادرة العاصمة".
تعمّد صناعة الأزمات
من جانبه، يقول الناشط السياسي أحمد عبد الهادي أن "الفوضى العمرانية في بغداد تندرج ضمن مسارين: الأول هو الهجرة الكبيرة من المحافظات، كون العاصمة تتوفر فيها فرص عمل أكبر، وهذا المسار خلف مشكلات في الخدمات والبنية التحتية والسكن وغيرها. والمسار الثاني هو تعمد صناعة الأزمات من أجل الانتفاع، ويحدث ذلك من قبل أحزاب وفصائل ساهمت في تشويه أطراف بغداد، وتحديداً ما يتعلق بتحويل البساتين والمساحات الخضراء إلى مناطق سكنية عشوائية".
ويشير عبد الهادي في حديث صحفي إلى ان "الزيادة السكانية أدت إلى تغيير خرائط كل المدن، ليس بغداد وحدها. وأعتقد أن هذا ينطبق على معظم دول العالم، لكن هناك حاجة لدعم وزارة التخطيط، وإعطائها حق تحديد الأولويات"، مبينا أن "الحكومة الحالية حاولت تصحيح الأوضاع من خلال تحويل العشوائيات إلى مناطق مخدومة ونظامية، لكنها تصطدم بحجم العشوائيات الهائل، إضافة إلى النفوذ الحزبي، كذلك سيطرة بعض الجهات المسلحة على مناطق في بغداد".
عدم اعتماد التخطيط الهندسي العلمي
إلى ذلك، يرى المهندس أيوب حارث أن "أكثر ما يؤثر على شكل العاصمة هو عدم اعتماد الجانب الهندسي العلمي في تنفيذ المشاريع. إذ يجري تقسيم الكثير من الأراضي على أطراف المدن من خلال موظفين تابعين لبعض الدوائر الحكومية، أو من خلال المواطنين أنفسهم، أو أصحاب البساتين والأراضي الزراعية، ما يخلف ضرراً كبيراً في خطوط إمداد هذه المناطق بالخدمات".
ويوضح في حديث صحفي أن "الجماعات المسلحة كان لها دور في إفشال الخطط الهندسية والعمرانية، لأن بعض هذه الجماعات سيطر على أراض واسعة، وقام ببيعها للمواطنين، ما خلق عشرات، وربما مئات الأحياء والتكتلات السكنية العشوائية، وبالتالي تغير شكل خريطة العاصمة إلى الأسوأ. وهذا يمكن اعتباره تشويهاً متعمداً".
وفي تقييم لمجلة "سي وورلد" الأمريكية، حلت بغداد في مرتبة متدنية ضمن قائمة المدن الأكثر أمناً على مستوى العالم للعام 2024. إذ حلت في المرتبة 264 من أصل 300 مدينة عالميا، وفي المرتبة 10 عربياً. وقد أرجعت المجلة ذلك إلى استمرار فشل الحكومات المتعاقبة منذ 2003، في حفظ الأمن والحد من ارتفاع معدلات الجريمة وانتشار العصابات.