في الماضي، قبل أن يغزو الكونكريت المدن ويخنقها، كانت رائحة نبات الآس أو "الياس" بلهجة العراقيين، تعبق في الأزقة القديمة والجديدة أيضا، مع نسمات الهواء، فتضفي على ليالي الصيف عبيرا محببا.
إلا ان تلك الشجيرات دائمة الخضرة، التي نبتت في تربة العراق منذ آلاف السنين، وقدستها المرويات والأساطير القديمة وتباركت بها الأديان، باتت اليوم تكافح من أجل البقاء، في مدن تمدد فيها الاسمنت على حساب الخضرة، وانحسر فيها الماء، وتصاعدت نسب تلوّث الهواء.
ولم تكن هذه الشجيرات في مأمن من وحش الكونكريت، الذي جرّف مساحات خضراء واسعة في بغداد ومختلف المحافظات، وأجهز على أشجار معمّرة في مجازر كارثية، فضلا عمّا خلفته أزمتا المياه والتلوّث من تداعيات مُدمرة في الواقع الزراعي، ما جعل البلاد متصحّرة بعد أن كانت تُسمى أرض السواد نظرا لأراضيها الخصبة وخضرتها الكثيفة!
في الثقافة الشعبية
رغم عدم وجود نصوص دينية تُلزم المؤمنين برعاية نبات الآس، إلا أن أوراقه لا تزال تُذر فوق الجنائز وفي المجالس الحسينية، وتُنسج منها أكاليل الأعراس في الكنائس، وتُكلل بها شعارات المندائيين في طقسي التعميد والوداع الأخير، ما يؤكد أن لهذا النبات مكانة مرموقة في الثقافة الشعبية.
في حديث صحفي، يقول الشيخ مرتضى حسين الأُزيرجاوي، أن "حضور الياس في الثقافة الشعبية عميق رغم عدم وجود تشريع مكتوب حول ذلك. فأوراقه تُستخدم في الطب الشعبي لعلاج الصداع وأوجاع المعدة، استنادا إلى اجتهادات ابن قيّم الجوزية".
ويوضح أن "في الموروث الشعبي الإسلامي، استخدمت أوراق الياس في طقوس الرقية الشرعية كجزء من الماء المقروء عليه، اعتقادا بأنها تطرد الحسد أو السحر وغير ذلك، دون أن يكون لهذا الموروث أصل شرعي"، متابعا القول: "كذلك يعتمد بعض الطقوس الكنسية، مثل القداس أو المعمودية، على استخدام أوراق الياس ضمن التقاليد الثقافية، أكثر مما هو مقرر في العقيدة نفسها. اذ لا يُعد ورق الياس جزءاً رسمياً في المسيحية، كما هو الحال في الديانتين اليهودية والمندائية".
فيما تقول الراهبة ريتا ببيكا، أن "في خضرة الآس الدائمة إشارة إلى السلام والنقاء. لذلك نعلّق أغصانه على الكنائس في أعياد الميلاد والفصح".
نبتة مباركة
وتعد نبتة الآس مباركة ومقدسة وأساسية في العديد من طقوس الديانة المندائية.
ووفقا للباحث المندائي جبار منير مكلف، فإن هذه النبتة تُعتبر ضرورة دينية تدخل في جميع الطقوس المندائية، وترافق الإنسان في جميع مراحل حياته، من الولادة مروراً بالزواج حتى الوفاة.
بينما توضح المندائية أطياف نهر، في حديث صحفي، أن "الآس يوضع على (سرة) المولود الجديد، ويعتبر ذلك أول تعميد للطفل حتى يبلغ عمره ثلاثين يوما".
ويدخل نبات الآس في الميثولوجيا، ويرمز الى النقاء والجمال والطهارة. فبحسب الأسطورة الإغريقية، فإن أفروديت، آلهة الحبّ والجمال،عندما كانت تستحم ذات مرة عند نبع ماء، شاهدها "الساطير" وهي مخلوقات خرافية نصفها الأعلى على شكل إنسان والنصف السفلي على شكل حيوان.
ولم تستطع افروديت التخلص من مراقبة تلك الكائنات وفضولها إلا بالاختباء بين أغصان نبات الآس، وبذلك أصبح الآس نبات أفروديت المفضل.
وكان الإغريق القدماء قد زرعوا هذا النبات حول معابدهم، واعتبروه رمزاً للرقة والإخلاص والعفة، ولذلك كانت قلادة العروس تصنع من أغصان الآس – وفق ما تذكره قرائن تاريخية.
أزمة السكن تقسو على الآس!
لكن هذا الإرث الروحي يقف اليوم أمام معادلة قاسية. فأزمة السكن وارتفاع أسعار العقارات، كل ذلك أجبر الناس على تحويل حدائق منازلهم إلى غرف وملاحق خرسانية، بعد اقتلاع أشجارها ونباتاتها، ومن أبرزها الآس.
ويبدو أن هذه النبتة الموغلة في أعماق الموروث الشعبي العراقي، ليست مرغوبة اليوم، كونها تحتاج إلى ري منتظم وعناية فائقة. إذ غالبا ما تُفضل حملات التشجير، سواء المجتمعية أم الحكومية، أشجار الأكاسيا، باعتبارها أسرع نموا وأشد مقاومة للعطش والحرارة في ظل أزمتي نقص المياه والتغيّر المناخي.
يصف المهندس الزراعي نجاح محمد، حال نبات الآس اليوم قائلا أن "الأصوات التي كانت تملأ الأحياء بوقع المقصّ حول أسوار الآس لتزيينها، خفتت اليوم لتحل محلها أصوات مطارق البناء".
فيما يحذّر زميله إحسان عبد علي من أن "استمرار هذا الإهمال سيحرم بغداد من (شجرة السلام) ويقطع صلتها بجزء حيّ من تراثها النباتي".
أين ذهبت تلك الرائحة الزكية؟!
في منطقة الأعظمية تقف السبعينية حسيبة عقيل، على عتبة بيتها القديم. فتغمض عينيها على أمل أن تتحسس تلك الرائحة الزكية التي كانت تملأ ليالي الصيف عندما كانت الأسرة تتناول العشاء إلى جوار شجيرات "الياس". ثم تعود وتفتح عينيها، فلا ترى سوى أسوار إسمنتية جرداء. تقول حسيبة في حديث صحفي، أن "اختفاء شجرة الآس يشبه اختفاء جرس المدرسة القديم أو صوت بائع الباقلاء عند الفجر.. تفاصيل صغيرة إذا غابت تفرغ المدينة من روحها".
وتتعالى أصوات الكثيرين من المعنيين بالبيئة والزراعة، مطالبة بحملة إنقاذ لنبات الآس، من خلال إعادته للحدائق والمتنزهات والساحات العامة، مع تقديم دعم لأصحاب البيوت كي يعيدوه إلى حدائقهم أو الأرصفة المجاورة لبيوتهم، من خلال توفير شبكات ري بالتنقيط، فضلا عن إطلاق برامج توعية تُعرّف الأجيال الجديدة بفضائل هذه الشجيرة العطرة.
فبينما تسعى المدن إلى خفض حرارة هوائها الخانق، قد تكون زراعة أمتار من الخضرة الموروثة خطوة أولى لاستعادة ما خسرته من ظلٍّ وذاكرة. وفي السباق مع الزمن يبقى السؤال معلقاً في هواء المدينة: هل يستطيع العراقيون إنقاذ شجيرة كانت شاهداً صامتاً على أفراحهم وأتراحهم قبل أن يُسدل العمران ستاراً أبديا من الأسمنت على عبيرها المتبقي؟!