اخر الاخبار

وسط دخان النفايات والمواد المحترقة، يختنق سماء بغداد بالملوثات التي تنبعث من محارق رسمية، ومن ساحات ومحارق تشتغل ليلا بعيدا عن انظار الحكومة، للتخلص من النفايات. وبرغم الكميات الهائلة من المخلفات القابلة للتدوير، تفتقر البلاد إلى إدارة فعّالة، وتبقى الحلول حبيسة الأدراج، بينما تستمر الأدخنة في الصعود، برغم تحذيرات الناشطين.

مدينة الطب تحرق مواد مخدرة

وذكرت الناشطة في مجال مكافحة أمراض السرطان، مينا علي، أنها خلال مراجعتها لمدينة الطب خلال الأيام الاخيرة، تعرضت لحالة تحسس حاد نتيجة استنشاق رائحة احتراق قوية انتشرت في المكان. وذكرت مينا، أنها بعد سؤالها عدداً من المحال المجاورة، علمت بأن الطب العدلي يجلب أشخاصا محكومين في قضايا المخدرات لإجراء فحوصات لهم، فيما يقوم كل يوم ثلاثاء، بحرق المواد المخدرة التي ضُبطت بحوزتهم بالقرب من المرضى.

وأضافت: "لا أملك دليلاً قاطعاً على صحة هذه المعلومة، لكن إن كانت صحيحة، فإن ما يحدث يعد جريمة بيئية وصحية بحق المرضى والمراجعين والعاملين."

وشددت مينا على خطورة هذه المحارق وما ينتج عنها من أدخنة سامة، مؤكدة أن استنشاقها قد يسبب أضراراً بالغة للجهاز التنفسي وبقية أعضاء الجسم، لا سيما من يعانون أمراضا مزمنة أو ضعفا مناعيا.

وأعلنت وزارة الصحة، اخيراً، إتلاف (340.679) كغم من المواد المخدرة و(100,000) قرص من مادة السيدافيد التي تحتوي على الترامال، ضمن إجراءات رسمية نفذتها دائرة الطب العدلي. ووفقا لبيان الوزارة فإن العملية جرت بإشراف وزير وبحضور لجنة مختصة ترأسها القاضي ياسر الخزاعي، ومثّلت فيها جهات أمنية وقضائية.

وأضاف البيان، أنه "تم الإتلاف باستخدام محارق خاصة بدرجة حرارة بلغت 1100 مئوية لضمان إزالة السمية". وأكدت الوزارة أن هذا الإجراء يأتي ضمن جهود مكافحة المخدرات وتنفيذ البرنامج الحكومي.

وخلال عام 2021 كشف الجهاز المركزي للإحصاء العام عن وجود 221 موقع طمر صحي في العراق، باستثناء إقليم كردستان، منها 149 موقعاً غير حاصل على الموافقة البيئية ومخالفا للضوابط، ما يعني أنها مكب للنفايات.

أين مشروع تدوير النفايات؟

وقالت الناشطة البيئية نجوان علي إن النفايات أصبحت في العديد من دول العالم أحد الموارد الاقتصادية المهمة، لما تحويه من مواد قابلة لإعادة التدوير مثل الحديد، الألمنيوم، الفولاذ، البلاستيك، الزجاج، الورق، الكرتون المقوى، إطارات السيارات، المواد النسيجية، وحتى مياه الصرف الصحي.

وأكدت نجوان لـ "طريق الشعب"، أن "العراق ينتج يوميا اطنانا من النفايات، لها قيمة اقتصادية كبيرة يمكن أن تُستثمر في دعم الاقتصاد الوطني وتوفير فرص عمل، إذا ما تم التعامل معها وفق سياسات إدارة نفايات متطورة". ووفقا لبيانات رسمية تعود لعام 2023، فإن العراق يفرز يوميا 20 الف طن من النفايات.

وحذرت من ظاهرة حرق النفايات ليلا، وهي ممارسة منتشرة في عدد من مناطق العاصمة بغداد التي تعاني من نقص الخدمات البلدية، ما يدفع المواطنين للتخلص من النفايات بحرقها في الساحات الفارغة. ووصفت هذه الظاهرة بأنها "خطر بيئي وصحي مباشر" على سكان المناطق، لما تسببه من تلوث وأمراض مزمنة، مطالبة الجهات الحكومية والخدمية بمعالجتها.

وذكرت أنها شاركت ضمن فريق من المختصين في إعداد ورقة سياسة متكاملة تناولت أهمية تدوير النفايات وإدخالها في الدورة الاقتصادية، إلا أن هذه المبادرة لم تلق اهتماما يذكر من قبل الجهات المعنية. وعبرت عن خيبة امل لعدم وجود نتائج على ارض الواقع من مشاركات العراق في المؤتمرات الدولية والاتفاقيات الخاقة بالبيئة.

دوائر ووزارات تتجاهل التعليمات

فيما قال المتحدث باسم وزارة البيئة لؤي المختار، إن "غياب الاستدامة في تطبيق الإجراءات المطلوبة من قبل الجهات الحكومية، مثل أمانة بغداد، ووزارتي الكهرباء والداخلية، إضافة إلى قيادة عمليات بغداد، ساهم بشكل مباشر في تفاقم الأزمة".

وأشار في حديث خص به "طريق الشعب"، إلى أن فرق الرقابة البيئية رصدت خلال الفترة السابقة عمليات حرق غير قانونية للنفايات في عدة مواقع من بينها معسكر الرشيد"، مؤكدا أن هذه الأنشطة تجري في أحيان كثيرة دون الحصول على الموافقات البيئية الرسمية.

وأضاف المختار، أن "الانبعاثات الناجمة عن هذه الأنشطة تمثل مصدرا رئيسيا لتدهور جودة الهواء، خاصة خلال ساعات الليل"، مبينا أن وزارة البيئة تواصل الضغط على جميع الأنشطة، سواء كانت تابعة للقطاع الحكومي أو الخاص، من أجل الالتزام بالضوابط البيئية.

مكبات عشوائية

وكشف معاون مدير عام دائرة التوعية والإعلام البيئي في وزارة البيئة، أنعم ثابت خليل، عن تدهور البنية التحتية لمحارق النفايات، وخصوصًا محارق المخلفات الطبية، مؤكدًا أن معظمها لم تعد صالحة من الناحية الصحية أو البيئية.

وقال خليل لـ "طريق الشعب"، إن "بلدية بغداد لا تمتلك محارق مخصصة لحرق النفايات، كما لا توجد مواقع طمر نظامية لهذه النفايات"، مبينًا أن "النفايات البلدية تنقل إلى مكبات عشوائية غير خاضعة للرقابة البيئية".

وأشار إلى أن محارق المخلفات الطبية تتواجد فقط في المستشفيات الكبرى، وغالبيتها "قديمة ومتهالكة بسبب تقادم الزمن، وأصبحت لا تفي بالغرض الصحي ولا البيئي، إذ تطرح ملوثات وأكاسيد تتجاوز المحددات التي وضعتها وزارة البيئة".

وأضاف أن وزارة البيئة تعتبر معظم هذه المحارق "مخالفة بيئيا، مردفا أن بعض المستشفيات مثل مدينة الطب قامت بتحديث محارقها ومعالجة جزء من هذه المشكلة.

وأوضح خليل أن "الأسلوب العالمي الجديد في التعامل مع المخلفات الطبية لم يعد يعتمد على الحرق، بل على تقنيات حديثة تشمل التقطيع والتعقيم بالبخار، ما يحوّل المخلفات الطبية إلى نفايات بلدية غير ضارة يمكن التعامل معها بطريقة آمنة".

وبين أن بعض المستشفيات الحديثة بدأت باعتماد هذه التقنيات الأوتوماتيكية، لكن لا تزال العديد من المنشآت الصحية تعتمد على الحرق، خاصة في معالجة "مخلفات العمليات الجراحية المعقدة كأجزاء من الجسم، التي لا يمكن معالجتها بالتقطيع والتعقيم".

واختتم خليل بالتأكيد على أن "المخلفات الطبية تُصنف ضمن فئة النفايات الخطرة، ولا يمكن التعامل معها بالطرق التقليدية، ما يتطلب خطة وطنية شاملة لتحديث أنظمة المعالجة والالتزام بالمعايير البيئية العالمية".

تحد بيئي كبير

وأكد گشبين إدريس علي، رئيس منظمة هسار البيئية، أن قضية إدارة النفايات في العراق أصبحت واحدة من أبرز التحديات البيئية التي تواجه البلاد، مشددًا على أن التعامل معها يتطلب تخطيطًا دقيقًا واستراتيجيات واضحة لمواجهة حجم المشكلة المتفاقمة.

وقال علي لـ "طريق الشعب"، ان "في بلدنا العراق، واحدة من أكبر التحديات التي نواجهها هي كيفية التعامل مع كميات النفايات المتنوعة التي ننتجها يوميًا. إدارة النفايات لم تعد مجرد مشكلة بيئية، بل أصبحت عائقًا حقيقيًا أمام تحسين نوعية الحياة، لكنها في الوقت ذاته تمثل فرصة ثمينة يمكن استثمارها لتحقيق فوائد اقتصادية وبيئية".

وأشار إلى أن النفايات، رغم ما تمثله من خطر، قد تكون بمثابة "كنز غير مستغل" على المستوى العالمي، إذا ما أعيد النظر فيها من زاوية اقتصادية وتنموية. وأضاف، ان "لنفايات البلاستيكية، على سبيل المثال، تستغرق مئات السنين لتتحلل، وتراكمها في التربة والمسطحات المائية يؤدي إلى تدهور الحياة البرية والنظام البيئي، فضلًا عن خطر الأمراض الناتجة عن التلوث وسوء المعالجة".

وحذر من الانعكاسات السلبية لحرق النفايات، معتبرا أن الغازات السامة الناتجة عن الحرق تسهم بشكل مباشر في تلوث الهواء وتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري.

وختم علي بالقول: ان "التعامل مع أزمة النفايات يتطلب ما يشبه العملية الجراحية، نظرا لضخامة التحديات. ومن خلال تبني نهج دقيق وتشاركي، يمكننا المضي قدما نحو بيئة أنظف وأكثر استدامة في العراق".

عرض مقالات: