برغم الجهود الحكومية المعلنة لتحفيز القطاع الخاص في العراق، لا تزال التحديات المتراكمة تعيق تحوله إلى احد مصادر توفير فرص العمل وإمكانية لتنويع الموارد؛ ففي وقت يعاني فيه القطاع العام من الترهل والبطالة المقنعة، يظل القطاع الخاص بيئة طاردة للعمالة، لا سيما في ظل غياب الضمانات القانونية والاجتماعية، وعدم تكافؤ الفرص والامتيازات بينه وبين نظيره الحكومي.
وفي هذا الإطار، تبقى أبرز الإشكاليات التي تواجه القطاع الخاص، من ضعف في تطبيق القوانين وخصوصاً قانون العمل، إلى غياب دور الدولة في تنظيم ومتابعة سوق العمل، فضلاً عن تأثير الفساد الإداري وتعدد المرجعيات الرقابية، بدون معالجات ما جعل البيئة الاستثمارية غير جاذبة ومثبطة للراغبين في الانخراط بالقطاع الخاص، سواء من أصحاب العمل أو الباحثين عن الوظائف.
اشكالات عديدة
وبات القطاع العام مترهلاً ومثقلا بملايين الموظفين ونسب بطالة مقنّعة عالية، وهذا ما تريده القوى السياسية المتنفذة، من اجل محاولة خصخصته وبيعه الى الفاسدين المدعومين من قبلها، في وقت يعاني فيه القطاع الخاص من ضعف شديد في التشريعات التنظيمية، وغياب الرقابة، وتراجع واضح في فرص التدريب والتطوير المهني.
وتُعد قضية تطبيق قانون العمل وقانون الضمان الاجتماعي أحد أبرز الإشكالات التي تُعيق انخراط الشباب العراقي في سوق العمل الخاص، حيث يفتقر العاملون فيه إلى الحماية الاجتماعية والتأمينات الصحية والامتيازات المالية، ما يكرس الفجوة بين القطاعين، ويعزز ثقافة الاعتماد على الوظائف الحكومية.
كما تفتقر بيئة الأعمال في العراق إلى الوضوح القانوني والتنظيمي وتقييد شديد للتنظيم النقابي، في ظل تداخل الصلاحيات بين المؤسسات الحكومية، وغياب جهة مركزية تنظم التصاريح وتراقب الالتزام المهني، ناهيك عن تدخل الجهات الأمنية في نشاطات لا تقع ضمن اختصاصها، ما يزيد من تعقيد المشهد، ويؤخر نمو القطاع الخاص الذي يُعد ركيزة أساسية في أي اقتصاد ناشئ.
ممَ يعاني القطاع الخاص؟
في هذا الشأن قال الخبير الاقتصادي صالح الهماشي إن مشكلة القطاع الخاص في العراق لا تكمن فقط في غياب القوانين، بل في ضعف تطبيقها وغياب المتابعة الجادة من قبل الجهات المعنية"، مشيراً إلى أن "الحكومة قامت ببعض الخطوات الإيجابية، مثل قانون الضمان الاختياري، والذي يُعدّ من القوانين المهمة والمفيدة، إلا أن تطبيقه على أرض الواقع جاء ضعيفاً وغير فاعل".
وتساءل في حديث لـ "طريق الشعب" عن “هل قامت وزارة العمل بتسهيل تنفيذ هذا القانون أو الترويج له ومتابعة تنفيذه؟ الواقع يقول لا، فقد بقي القانون حبراً على ورق، وقلة قليلة من المواطنين فهمت تفاصيله أو استفادت منه فعلياً”.
وأشار الهماشي إلى أن “إنتاجية العامل في القطاع الخاص تعاني من تراجع كبير بسبب عزوف الأيدي العاملة الماهرة وهجرتها إلى خارج البلاد، إلى جانب غياب مراكز التدريب والتطوير المهني”، مضيفاً أن "منظمات المجتمع المدني، التي كان من المفترض أن تلعب دوراً فاعلاً في هذا المجال، ركزت جهودها على الجوانب النظرية والإدارية فقط، مثل التنمية البشرية والإعلام، دون تقديم أي مساهمة حقيقية في مجال التدريب الفني أو تأهيل الكوادر".
وأضاف أن “وزارة العمل بدورها لم تقدم خطوات حقيقية لافتتاح مراكز مهنية تُعنى بتطوير العاملين في القطاع الخاص أو تمنحهم امتيازات مشجعة”.
وفي ما يخص الجوانب القانونية، أشار الهماشي إلى أن “تطبيق القوانين المتعلقة بالقطاع الخاص ما يزال يعاني من إشكالات كثيرة، أبرزها غياب المتابعة، إضافة إلى أن الفساد يبقى أحد الأسباب الرئيسية وراء فشل الدولة في تفعيل بيئة اقتصادية صحية”. وأوضح أن “محاولات الحكومة لمحاربة الفساد كانت خجولة جداً وغير كافية”.
وانتقد الهماشي ضعف الضمانات التي يتمتع بها العاملون في القطاع الخاص، قائلاً إن “الموظف في هذا القطاع يُعامل كمواطن من الدرجة الثانية، فحتى الكفالات في مراكز الشرطة أو المؤسسات الرسمية لا تُقبل إلا من موظفي الدولة، كما أن المصارف لا تمنح القروض إلا لمن يمتلك كفالة حكومية من موظف رسمي، في تجاهل واضح لوجود القطاع الخاص”.
كما أشار إلى مشكلة أخرى تتعلق بتعدد الجهات المعنية بمنح تصاريح مزاولة المهنة، موضحاً أن “هناك تداخلات بين وزارات العمل والبلديات والبيئة، إضافة إلى أمانة بغداد، بل وحتى الأجهزة الأمنية التي تتدخل في منح التراخيص الخاصة ببعض الأنشطة الاقتصادية مثل الكراجات ومعارض السيارات ومواقف النقل، وهو أمر يجب أن يكون خارج نطاق صلاحياتها”.
وأكد الهماشي، أن “كل هذه التحديات مجتمعة جعلت من القطاع الخاص بيئة طاردة وغير جاذبة للشباب أو للاستثمار المحلي”.
وختم حديثه بالقول: “إذا كانت الحكومة العراقية جادة في تنشيط القطاع الخاص وتخفيف الضغط عن القطاع العام، فعليها أن تمنح هذا القطاع امتيازات حقيقية، وتعمل على تسهيل الإجراءات، وتُفعل قوانين الضمان الاجتماعي بطريقة عادلة ومنصفة، مع مراجعة دقيقة وشاملة للسياسات الحالية ومتابعة تنفيذها بصرامة”.
القطاع الخاص بيئة طاردة
من جهته، أكد المحلل الاقتصادي حسنين تحسين أن العراق يواجه إشكالات كبيرة في بيئة العمل، سواء في القطاع العام أو الخاص، مشيرًا إلى أن القطاع العام لم يحقق أي نجاح يُذكر في تنفيذ مشروع وطني أو جهد اقتصادي فاعل، نتيجة لانعدام الرؤية والتخطيط السليم من قبل الدولة.
وقال تحسين أن “القطاع الخاص ما يزال يُعاني من بيئة طاردة وغير مستقرة، والسبب الرئيس في ذلك هو غياب الضمانات القانونية والاجتماعية، ما جعل المواطنين، وخاصة الشباب، يعزفون عن العمل فيه ويفضّلون اللجوء إلى الوظائف الحكومية”.
وفي ما يخص قانون الضمان الاجتماعي، قال إن تطبيقه في القطاع الخاص ما يزال شكليًا وغير فاعل، مؤكدًا أن "الدولة لا تتابع هذا الملف كما ينبغي".
وأضاف في حديثه مع "طريق الشعب"، انه "من غير المنطقي أن تنتظر الدولة من الشركات أن تُخبرها باحتياجاتها أو بنيتها الوظيفية. يجب أن يكون للدولة دور رقابي وتنظيمي واضح يتيح لها الإشراف على هيكلة هذه المؤسسات، وضمان التزامها بشروط الضمان الاجتماعي بشكل فعلي”.
وشدّد تحسين على أن "غياب الضمانات في القطاع الخاص أثّر بشكل كبير على نظرة الباحثين عن العمل لهذا القطاع، فحين يغيب الأمان الوظيفي، وتتلاشى الامتيازات، يصبح من الطبيعي أن يتوجه الناس إلى القطاع العام الذي ما زال يحتفظ بحد أدنى من الاستقرار والتأمينات”.
كما أوضح أن "الفوارق الكبيرة في الامتيازات الوظيفية، مثل التقاعد، الرعاية الصحية، القروض، والكفالات القانونية، جعلت القطاع الحكومي الخيار الأول والأكثر أمانًا لدى المواطنين، وهو ما أدى إلى “قطيعة شبه تامة” مع القطاع الخاص، رغم الحاجة الملحّة لتنشيطه وتفعيله كجزء من حل أزمة البطالة وتخفيف العبء عن الدولة".
وحول أسباب استمرار عزوف المواطنين عن العمل في القطاع الخاص، أشار إلى أن “البيئة القانونية غير المحفّزة، وغياب الحماية الاجتماعية، والاستغلال وانعدام الرقابة على أصحاب العمل، كلها عوامل جعلت هذا القطاع غير جاذب وغير قادر على المنافسة”.
وختم تحسين تصريحه بالقول: “إن إصلاح القطاع الخاص يتطلب إرادة سياسية حقيقية، تبدأ بوضع رؤية اقتصادية واضحة، وتفعيل القوانين الرقابية، وضمان تنفيذ قانون الضمان الاجتماعي بشكل صارم، وإيجاد توازن في الامتيازات بين القطاعين العام والخاص، حتى لا يبقى أحدهما ملاذًا اضطرارياً والآخر بيئة طاردة”.