اخر الاخبار

في قلب الأنبار، وعلى امتداد نهر الفرات الذي طالما كان شريان الحياة للعراقيين، تتلاشى تدريجيا بحيرة عانة، تاركة وراءها أرضا متشققة، وصمتا ثقيلا، ووجوها أنهكها العطش والانتظار، حيث يكشف هذا الانخفاض في منسوب المياه، تدهورا حادا وهشاشة في الأمن المائي العراقي.

كارثة بيئية واجتماعية

يقول صميم سلام، رئيس مرصد الفرات البيئي، قائلا: إن "بحيرة عانة، التي ولدت من رحم سد حديثة عام 1985، لم تعد كما كانت. فالمياه التي كانت تغمر مدينة عانة القديمة لتشكل البحيرة، باتت اليوم تذوي شيئا فشيئاً، تاركة قاعها مكشوفاً، وأمل السكان مكبلًا بالعطش". بحيرة عانة، التي كانت تغذى من مياه الفرات القادمة من سوريا وتركيا، إلى جانب السيول والعيون الطبيعية، أصبحت اليوم ضحية مباشرة لقلة الإيرادات المائية وشح الأمطار. ومع شكلها الهرمي الذي يجعلها تفقد المياه بسرعة كما تمتلئ بسرعة، تسارعت الأزمة، وتدهور معها واقع الصيادين، وانقطع الأمل لدى المزارعين الذين يراقبون محاصيلهم تموت واقفة.

ويضيف سلام لـ "طريق الشعب"، أن "انخفاض المنسوب اجبر مشروع ماء عانة على تمديد أنابيب عميقة داخل البحيرة، وبناء منصات ضخ، لضمان بقاء مياه الشرب تصل إلى سكان قضاءي عانة وراوة. أما في القرى النائية، فقد أصبح الوصول إلى المياه رحلة يومية شاقة، حيث يعتمد الأهالي على الحوضيات لجلب الماء من أدنى نقطة في البحيرة، وهي مياه تُوصف بأنها "ثقيلة ومليئة بالتلوث".

وطبقا لرئيس مرصد الفرات البيئي، فان المشكلة لا تتوقف عند حدود العطش، بل تتجاوزها إلى كارثة بيئية واجتماعية وصحية. فالتلوث الذي وصفه سلام بـ"أنابيب الموت"، يزحف في شرايين نهر الفرات، حيث تُلقى مياه الصرف الصحي غير المعالجة مباشرة إلى مجرى النهر، خاصة في مناطق شرق الرمادي. هذا التلوث لم يرحم البشر ولا الشجر، إذ انتشرت الأمراض الجلدية بين السكان، وتعرضت المزروعات للتلف، بعدما سقيت بمياه غير صالحة، ووصلت إلى الأسواق دون رقابة، ما عمّق الأزمة الغذائية والاقتصادية في البلاد.

ويختتم قائلاً إنها "ليست مجرد بحيرة تنحسر، بل حياة كاملة تنكمش مع كل متر ماء يختفي. وأمام كل هذا، ما زال الصمت الرسمي أقوى من صرخات الأرض والناس. والبحيرة، كما أهلها، ما زالت تنتظر... لعل من يسمع".

تراجع الإطلاقات المائية

وحذر الخبير البيئي رأفت الهيتي من التدهور المستمر في منسوب المياه في بحيرة عانة، الواقعة على نهر الفرات، والتي تُعد الخزان الاستراتيجي الرئيسي خلف سد حديثة.

وقال الهيتي لـ"طريق الشعب"، إن البحيرة، التي كانت في السابق ممتلئة بمستويات عالية من المياه، باتت اليوم تعاني من انخفاض كبير في منسوبها نتيجة عدة عوامل داخلية وخارجية.

وأضاف الهيتي، أن أحد أبرز الأسباب المؤثرة على الوضع المائي في البحيرة هو تراجع الإطلاقات المائية من دول المنبع، وبشكل خاص تركيا، إضافة إلى التأخير أو الحجز الحاصل في سوريا عند سد الطبقة. هذه السياسات المائية الإقليمية، بحسب الهيتي، ساهمت بشكل مباشر في تقليص كمية المياه التي تصل إلى نهر الفرات داخل الأراضي العراقية، ما ضاعف من حجم الأزمة المائية التي تواجهها البلاد.

أما على الصعيد الداخلي، فقد شدد الهيتي على أن مواسم الجفاف المتكررة وقلة الأمطار في السنوات الأخيرة كانت عاملاً رئيسيًا في تفاقم هذه الأزمة. كما نبه إلى أن الجفاف الذي أصاب الأهوار في جنوب العراق أثر أيضًا على النظام المائي العام، مشيرًا إلى أن بحيرة عانة تُعد جزءًا حيويًا من منظومة الأمن المائي الوطني في العراق، وأن تراجع مستواها المائي يعد إنذارًا بمخاطر جسيمة على الأمن البيئي والاجتماعي في المنطقة.

وأضاف الهيتي، أن انخفاض منسوب المياه في البحيرة لم يؤثر فقط على حجم المياه، بل أيضا على جودتها، ما أدى إلى تداعيات سلبية على الصحة العامة في المدن المجاورة مثل عانة وراوة. كما أشار إلى أن مشاريع المياه في هذه المناطق بدأت تعاني من شح شديد، ما اضطر السكان إلى قطع مسافات طويلة للوصول إلى مصادر مياه صالحة للاستخدام.

كما لفت الهيتي إلى أن الأنشطة الزراعية وصيد الأسماك قد تأثرت بشكل كبير بسبب الجفاف. فقد تضررت الأراضي الزراعية القريبة من البحيرة بسبب نقص المياه المخصصة للسقي، بينما تراجعت فرص العيش لدى العائلات التي تعتمد على صيد الأسماك كمصدر دخل رئيسي.

وفي الختام، شدد الهيتي على أن استمرار هذا الوضع دون تدخل حقيقي وفوري من الجهات المعنية، سواء على المستوى الداخلي أو عبر التفاوض الإقليمي حول المياه، سيؤدي إلى أزمة بيئية وإنسانية حادة في المناطق الواقعة على نهر الفرات، ما يهدد الاستقرار البيئي والاجتماعي في المنطقة.

ظهور مئذنة عانة الأثرية

من جانبه، ذكر محمود الفهد مراقب للشأن المحلي من محافظة الانبار، أن "مديرية الموارد المائية في الأنبار لا تقدّم معلومات دقيقة بشأن أوضاع المياه، خاصة مع ما تشهده المحافظة من انخفاض ملحوظ في مناسيب المياه خلال الفترة الأخيرة".

وقال الفهد لـ "طريق الشعب"، إنّ مديرية الموارد المائية بدأت، منذ نحو عشرين يوما، الاستعداد لملء البحيرة بمياه الأمطار الأخيرة، في محاولة لمعالجة الأزمة، مشددا على أن الواقع البيئي والموارد المائية يكشفان عكس ما يعلن رسميا. وأرفق الفهد لـ "طريق الشعب" صورا تظهر الفارق الكبير بين مشهد البحيرة وهي ممتلئة سابقا، وحالتها الراهنة وقد جفت أجزاء واسعة منها، مشيرا إلى أن "البحيرة اليوم تعاني من الجفاف والتلوث، وسط إهمال واضح من قبل الجهات المعنية".

وأضاف، أن البحيرة، التي كانت فيما مضى مقصدا سياحيا واقتصاديا مهما يقصدها الزوار من مختلف مناطق البلاد للاستجمام وصيد الأسماك، باتت اليوم شبه مهجورة، تعاني من الإهمال والتراجع البيئي.

وأكد الفهد، أن المحافظة بشكل عام تواجه مشكلات كبيرة في إدارة مواردها المائية، حيث أن الخطة الزراعية الصيفية أصبحت "صفر"، بينما الخطة الشتوية تعتمد بالكامل على الخزين المائي المتوفر، الذي لا يبشر بالخير في ظل هذا الواقع.

من جانب آخر، لفت الفهد إلى إيجابية واحدة من الجفاف، تمثلت ظهور مئذنة عانة الأثرية التي كانت عائمة في البحيرة. واكد ان مدينة عانة تعد احد المناطق الأثرية ويشار إلى أنها ذكرت في المخطوطات البابلية والآشورية.

عرض مقالات: