تنتشر ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس، وسط غياب شبه تام للإجراءات الرادعة أو الخطط الجادة لإعادة هؤلاء الأطفال إلى التعليم. وعلى الرغم من ان قانون التعليم الالزامي رقم 118 قد حدد في 1976 عقوبات بحق أولياء الأمور الذين لا يلتزمون بتعليم أبنائهم، إلا أن الواقع يقول شيئًا آخر.
قانون منسٍ
وتتفاقم ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس، خاصة في المناطق التي تعاني من ضعف الخدمات وارتفاع نسب الفقر، حيث يذكر الخبير القانوني مصطفى البياتي، أن "الدستور العراقي وضع أسسا واضحة لحماية حقوق الطفل، إذ تنص المادة 34 على أن الدولة تلتزم بتوفير التعليم ومحو الأمية، وتكفل حماية الطفولة. إلا أن الأزمة الحقيقية لا تكمن في النصوص، بل في غياب التنفيذ من قبل الحكومات المتعاقبة وحتى الحالية.
ويقول البياتي لـ "طريق الشعب"، أن "قانون العمل العراقي يمنع تشغيل الأطفال دون سن 18 عامًا، وهو ما يعني أن إشراكهم في سوق العمل يعد انتهاكا قانونيا واضحا"، مشيرا إلى أن الواقع مختلف تماما، حيث يلاحظ تزايد أعداد الأطفال العاملين في الشوارع، وفي الأسواق والمناطق الصناعية والتجارية، دون وجود إجراءات فعلية للحد من هذه الظاهرة أو محاسبة المتسببين فيها.
ويعتبر البياتي، أن هذا التناقض بين النصوص القانونية والتطبيق العملي يعكس ضعف الإرادة الرسمية في معالجة ملف الطفولة بشكل جاد، مؤكدًا أن غياب الرقابة والمتابعة القانونية يفتح الباب واسعًا أمام استغلال الأطفال، ويُعمّق من مشكلات التسرب الدراسي والفقر والتهميش.
الأطفال إلى الشارع لا إلى المدارس
أحمد سعد، عضو سكرتارية اتحاد الطلبة العام، قال لـ "طريق الشعب"، أن عدم تنفيذ هذا القانون بشكل جدي، ساهم بشكل مباشر في انحدار آلاف الأطفال نحو سوق العمل في سن مبكرة.
وأضاف أن "غياب تطبيق القانون سمح لعدد كبير من العائلات بإجبار أطفالهم على ترك الدراسة، دون وجود محاسبة. اليوم نرى الأطفال يعملون في الشوارع، يغسلون السيارات، أو يتسولون، وهذا أصبح مشهدا يوميا".
وتابع، أن الاستهانة بهذه المرحلة العمرية تؤثر على الطفولة بشكل عميق، إذ يدفع الطفل لتحمّل أعباء تفوق عمره، ما يحرمه من بيئة طبيعية للنمو والتعلم.
وحذر من أن استمرار هذا الإهمال سيؤدي إلى نتائج خطيرة، مثل ازدياد نسب الجريمة، وتفشي تعاطي المخدرات، وتراجع الفرص أمام الأجيال الجديدة لبناء مستقبل مستقر.
واختتم سعد بالتنبيه إلى أن العراق بلد يتميز بتركيبة سكانية شابة، ما يعني أن الاستثمار في هذه الفئة يجب أن يبدأ من التعليم، وإلا فإن البلاد ستخسر واحدة من أهم مواردها.
وكشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" في تقرير سابق عن وجود 2.3 مليون طفل عراقي في سن الدراسة خارج أسوار المدارس. وهذا الرقم لا يعكس فقط حجم الأزمة التعليمية في العراق، بل يكشف أيضا عن آثار عقود من الحروب والصراعات والإهمال، التي تركت النظام التعليمي هشًا، يكاد لا ينهض من تحت ركامه.
متى يطبق التعليم الإلزامي؟
يقول التربوي حيدر كاظم، إن "نظام التعليم في العراق واجه تحديات كبيرة خاصة بعد الغزو الأمريكي عام 2003، بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة التي مر بها البلد، والتي أسفرت عن وجود ما بين 2 إلى 3 ملايين طفل عراقي في سن الدراسة خارج مقاعد التعليم". هذه الأزمة، كما يوضح، دفعت الحكومة العراقية إلى السعي لتطوير نظام التعليم الإلزامي وتحسين جودته من خلال مجموعة من الإجراءات، في محاولة لمعالجة آثار الإهمال والتسرب، وتحقيق العدالة التعليمية.
ويضيف كاظم في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "عدم تطبيق قانون التعليم الإلزامي بصورة صحيحة يؤثر سلباً على مستوى تعلم الأطفال، ويتسبب في انحدار أغلبهم نحو العمل في الشوارع والأماكن العامة، حيث يُجبر الكثير منهم على ترك التعليم من قبل ذويهم دون أي رادع قانوني".
ويبيّن أن "تاريخ التعليم الإلزامي في العراق يعود إلى عام 1978، حين صدر قانون التعليم الإلزامي رقم 118، والذي شكل نقطة تحول مهمة في مسار التعليم، إذ نص على إلزامية ومجانية التعليم في المرحلة الابتدائية، باعتباره حقًا يكفله الدستور لجميع العراقيين".
ويتابع بالقول ان "القانون لا يزال نافذا حتى اليوم، وينص على معاقبة ولي أمر الطفل الذي يخالف القانون بغرامة مالية لا تقل عن دينار واحد ولا تزيد على 100 دينار، أو بالحبس مدة لا تقل عن أسبوع ولا تزيد على شهر، أو بكلتا العقوبتين. كما يلزم القانون إدارات المدارس الابتدائية بحصر حالات عدم التسجيل ومتابعتها من خلال القوائم المعلنة، والتواصل مع أولياء الأمور، واتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان انتظام الأطفال في الدراسة ومنع تسربهم، مع إبلاغ الجهات المعنية بمتابعة الدوام الدراسي".
وبرغم ذلك، يشير إلى أن "القانون يواجه تطبيقه عقبات وتحديات كبيرة على أرض الواقع، يأتي في مقدمتها التسرب المدرسي، والذي يُعد من أكبر التحديات التي تهدد التعليم الإلزامي، خصوصا في المناطق الريفية والمناطق الشعبية في بغداد والمحافظات"، مضيفا أن "النظام التعليمي يواجه ضعفا حادا في البنى التحتية، حيث تفتقر العديد من المدارس إلى الأبنية المؤهلة، والوسائل التعليمية الحديثة، إضافة إلى نقص المعلمين والتأخير في تسليم المناهج الدراسية للتلاميذ".
أما العامل الاقتصادي، فيشكل عائقا كبيرا أمام التحاق الأطفال بالمدارس، إذ تمنع الظروف الصعبة الكثير من العائلات من إرسال أبنائها للدراسة، ما يدفع الأطفال إلى سوق العمل في سن مبكرة.
يشار إلى ان العام الدراسي 2017-2018 سجل أعلى نسبة تسرب من المرحلة الابتدائية، وبلغ عدد المتسربين دون سن 15 عامًا نحو 131,368 تلميذًا، منهم 47 في المئة من الإناث، وفقا لإحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء عام 2019.
"العودة الى التعليم"
ويؤكد كاظم، انه "على الرغم من أن المادة 34 من الدستور العراقي تنص على حماية الطفولة وتكفل الدولة التعليم ومحو الأمية، إلا أن المشكلة تكمن في ضعف تطبيق القوانين من قبل الحكومات المتعاقبة. كما ينص قانون العمل على منع تشغيل الأطفال دون سن 18 عاما، غير أن الواقع يشير إلى تفشي هذه الظاهرة دون وجود رادع قانوني حقيقي".
وفي محاولة لمعالجة هذه الإشكالات، يذكر كاظم أن "الحكومة أطلقت عام 2024 حملة بعنوان "العودة إلى التعليم"، بالتعاون مع منظمة اليونسيف وبإشراف مباشر من رئيس الوزراء، حيث استمرت الحملة لمدة 50 يوما وشملت جميع مديريات العراق عبر فرق جوالة. واستهدفت الحملة الفئات العمرية من 6 إلى 35 سنة.
وتمكنت الحملة، بحسب إحصائيات الجهاز التنفيذي لمحو الأمية في وزارة التربية، من إعادة قرابة 90 ألف تلميذ وطالب إلى مقاعد الدراسة، في خطوة وصفت بأنها بارقة أمل في طريق إصلاح نظام التعليم في العراق.
تحول الى تجارة مربحة
ويرى الباحث الاقتصادي عبد السلام حسن، أن قانون التعليم الإلزامي يُعد من أفضل ما أقر في التشريعات العراقية، لكنه لم يفعل بالشكل المطلوب على أرض الواقع.
وفي حديثه لـ "طريق الشعب"، يشير حسن إلى أن فكرة الإلزام بالتعليم، رغم وجاهتها من الناحية النظرية، تُعد صعبة التطبيق في بيئة مثل العراق، لعدة أسباب، أبرزها غياب الأسس الحقيقية للإلزام، قائلاً: ان "كلمة إلزام بحد ذاتها من الصعب تحقيقها، خصوصاً في بلد مثل العراق، الذي لا يُعتبر من الدول المتقدمة في هذا المجال".
ويقارن حسن بين العراق وبعض الدول الأوروبية والخليجية، فيما يؤكد أن التعليم الطوعي هو الأنجح، لأنه نابع من رغبة المتعلّم، وليس مفروضاً عليه.
ويضيف، ان "البيئة الديمقراطية لا تعني دائماً وجود نظام صارم، بل تعتمد على قناعة الفرد، وهنا تكمن الصعوبة".
ويشير إلى أن الوضع الاقتصادي المتدهور، وسوء البنية التحتية التعليمية، وغياب الاستعدادات اللوجستية، مثل المدارس المناسبة وأجور المعلمين، كلها عوامل تُعيق تنفيذ هذا القانون. كما يشير إلى أن الدولة لا تنظر إلى التعليم كأولوية استثمارية، بل تركز على أرباحها الاقتصادية، على حد وصفه.
ومن الملاحظات المهمة التي يثيرها حسن أن التعليم تحول في كثير من الأحيان إلى تجارة مربحة بيد بعض الأفراد، قائلاً: "هناك من لا يملك مؤهلات تعليمية حقيقية، لكنه يؤسس مدرسة خاصة لمجرد امتلاكه المال، دون رقابة أو تأهيل"، كما أبدى أسفه من أن الشهادات التعليمية العراقية لا تلقى قبولاً خارج البلاد، باستثناء بعض التخصصات مثل الطب، مبرزاً غياب الثقة العامة بالمؤسسات التعليمية.
ويختتم حديثه بالتأكيد على أن تطبيق التعليم الإلزامي في العراق بحاجة إلى تحول جذري في البنية الاقتصادية والتعليمية، لأن القانون، رغم أهميته، يبقى حبرا على ورق في ظل هذا الواقع الصعب.