تعيش محافظة ذي قار وضعًا بيئيًا مقلقًا بسبب تفاقم تلوث المياه وتوقف محطات معالجة الصرف الصحي، ما أدى إلى تصريف مباشر للمخلفات في الأنهار. هذا الواقع يهدد صحة السكان ويؤثر على الزراعة والتنوع الإحيائي، وسط تحذيرات من خبراء وناشطين يدعون إلى تحرّك جاد لإنقاذ البيئة قبل فوات الأوان.
كشف الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2023 عن تفاقم أزمة الصرف الصحي في محافظة ذي قار، حيث تنتج المحطات الثلاث المركزية ووحدات المعالجة الأخرى حوالي 350 ألف متر مكعب يومياً من المخلفات، دون أن تتم معالجة أي كمية منها فعلياً، إذ تبلغ الكمية المعالجة "صفر" متر مكعب يومياً. هذا الوضع أدى إلى تلوّث مباشر لنهر الفرات والمصادر المائية، ، في ظل غياب واضح للبنية التحتية وخطط المعالجة الفعالة.
تحديات بيئية كبيرة
يقول د. محسن عزيز، مدير دائرة تحسين البيئة في المناطق الجنوبية، أن "محافظة ذي قار تواجه تحديات بيئية كبيرة تتعلق بنوعية المياه، نتيجة تصريف المخلفات السائلة في الأنهار والمسطحات المائية، مما ينعكس سلباً على جودة المياه والتنوع الأحيائي".
وأوضح عزيز لـ"طريق الشعب"، أن "المصادر المائية الرئيسية في المحافظة هي الفرات والغراف بما في ذلك نهر الوفاء الذي يغذي قسم من المشاريع والمجمعات، وكذلك الأهوار الممتدة في جنوب وشرق مدينة الناصرية، تتعرض بشكل متكرر لتصريف المخلفات السائلة، سواء كانت مياه صرف صحي أو مياهاً ناتجة عن الأنشطة الزراعية". وأضاف أن هذا التلوث "يؤثر بشكل مباشر على جودة المياه المستخدمة من قبل المواطنين، ويهدد التنوع البيولوجي في تلك المسطحات".
وأشار عزيز لـ "طريق الشعب"، إلى أن "مديرية البيئة قامت باتخاذ مجموعة من الإجراءات للحد من هذه المشكلة، من بينها توجيه إنذارات وفرض غرامات مالية على محطات الصرف الصحي المخالفة، بهدف دفع الجهات المعنية إلى إيجاد حلول بديلة وتحسين كفاءة معالجة المياه".
وبين أن "مديرية المجاري نفذت مؤخراً مشروعاً لربط عدد من محطات الرفع وتحويلها إلى ما يعرف بـ "النهر الثالث" وذلك لتخفيف الضغط على نهر الفرات وتقليل نسب الملوثات فيه".
وأكد عزيز على أهمية التنسيق المشترك بين وزارة البيئة ومديرية المجاري والحكومات المحلية، من أجل توفير وحدات معالجة متكاملة لمحطات الصرف الصحي، ما سينعكس إيجاباً على تحسين نوعية المياه في المحافظة.
وكشف عن تقديم شكوى رسمية من قبل مديرية البيئة ضد المؤسسات، بسبب مخالفات بيئية ناتجة عن بعض المحطات الصحية. وأكد أن استمرار هذه المخالفات قد يؤدي إلى أزمات بيئية حادة، مثل طفح مياه الصرف داخل المدينة، داعياً الجهات المحلية والمراكز المعنية في الأقضية والنواحي إلى اتخاذ إجراءات جادة للحد من التلوث وتحسين الواقع البيئي في ذي قار.
تدفق مستمر للملوثات
يقول الخبير البيئي جاسم الأسدي من محافظة ذي قار، أن "كمية المياه الواصلة إلى المحافظة لا تتجاوز 60 مترًا مكعبًا في الثانية في أحسن الأحوال"، وهو ما وصفه بأنه مؤشر خطير يعكس ضعفًا واضحًا في إدارة الموارد المائية.
وفي حديث لـ "طريق الشعب"، يكشف الأسدي، بقلق بالغ، أن هذا الشح المائي يتزامن مع تدفق مستمر لكميات كبيرة من الملوثات، ناجمة عن الصرف الصحي والمياه الصناعية، التي تُلقى بشكل مباشر في الأنهار والمسطحات المائية، دون أي معالجة. وتبدو الصورة أكثر قتامة في مناطق الأهوار، خاصة في قضاء الجبايش، حيث توجد أربع محطات صرف صحي تعمل على تصريف مخلفاتها بشكل مباشر في المياه، إلى جانب محطتين أخريين في ناحية المنار، ما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا.
ويحذر الأسدي من أن هذه المخلفات تحتوي على عناصر ثقيلة تترسب في المياه، فتؤثر على النظام البيئي برمّته. النباتات تتأثر أولًا، ثم تنتقل آثار التلوث إلى الحيوانات التي تشرب من هذه المياه، مثل الجاموس، ليصل الضرر في نهاية المطاف إلى الإنسان عبر الحليب والمنتجات الحيوانية الملوثة، مما يهدد الصحة العامة بشكل مباشر.
وفي ظل هذا المشهد، يدق الأسدي ناقوس الخطر، داعيًا إلى إجراءات واقعية وجادة للحفاظ على ما تبقى من البيئة والمياه العذبة في المحافظة. ويشدد على أن "الحلول لا يمكن أن تظل حبيسة أروقة المحاكم والدعاوى القضائية"، بل لا بد من استراتيجية وطنية شاملة، تبدأ من معالجة المخلفات، ولا تنتهي عند إعادة هيكلة إدارة الموارد المائية، بما يضمن سلامة البيئة وصحة الإنسان في ذي قار وسائر مناطق العراق.
مياه غير صالحة للاستخدام
من جانبها أكدت أستاذة جامعية متخصصة في الجغرافيا البيئية من محافظة ذي قار، سلوى الغزي، أن "مشكلة تلوث المياه أصبحت أوضح من أي وقت مضى، خاصة في مدينة الناصرية، مشيرة إلى أن مياه الشرب الواصلة إلى المنازل "غير صالحة للاستخدام البشري"، وفق نتائج تحاليل مخبرية أجريت في مراكز حكومية متخصصة، من بينها مختبر تابع لجامعة ذي قار والمكتب الاستشاري فيها.
وأضافت لـ "طريق الشعب"، أن "الدراسات التي اجريناها أظهرت تلوث مياه النهر وكذلك المياه المجهزة للمساكن، وهو ما يشكل خطراً حقيقياً على الصحة العامة". وبيّنت أن عينات المياه التي تم تحليلها أظهرت نسب تلوث عالية، مؤكدة أن النتائج موثقة ومعتمدة من جهات أكاديمية.
وأشارت إلى أن التلوث البيئي هو أحد تجليات التغيرات المناخية التي تشهدها المنطقة. ولفتت إلى أن التغيرات المناخية أثرت بشكل مباشر وغير مباشر على مختلف جوانب الحياة في محافظة ذي قار، سواء على المستوى البيئي أو البشري، مضيفة: "المناخ تأثر بشكل واضح، وكذلك النشاطات البشرية".
قلق بالغ
ويعبر سجاد العامل، ناشط بيئي من المدينة، عن قلقه من الواقع البيئي، مؤكدًا ل، "طريق الشعب" أن "العديد من المناطق الزراعية التي لم تطلها يد الجفاف بعد، تسقى بمياه ملوثة، ما يشكل خطرًا مباشرًا على صحة المواطنين والمزروعات على حد سواء".
ويكشف العامل عن أن "أكثر من عشرة مواقع في الناصرية تُستخدم كمصبات مباشرة لمخلفات الصرف الصحي، حيث تُرمى هذه المياه من محطات تابعة لمديرية المجاري مباشرة إلى نهر الفرات، دون أي معالجة تذكر، الأمر الذي يحمل تبعات كارثية على النظام البيئي وصحة الإنسان"/ كما أشار إلى مؤسسات أخرى تشارك في تفاقم هذه الأزمة من خلال تصريف ملوثاتها إلى نفس النهر.
ولفت إلى وجود مناشدات وشكاوى كثيرة، قدمها المواطنين المتضررين، لكن دون جدوى. ويحذر العامل من أن هذه الممارسات الخطيرة تؤدي إلى ترسب عناصر ثقيلة وسامة في المياه، مثل الزئبق والرصاص، ما يسهم في انتشار أمراض مزمنة وخطيرة، كالفشل الكلوي والسرطان، ناهيك عن تدهور التنوع الإحيائي في المنطقة
يؤكد، أن "ما يحدث هو نتيجة إهمال بيئي متراكم وغياب استراتيجيات فعالة لإدارة المياه ومعالجة الصرف الصحي"، داعياً الجهات المعنية إلى التحرك العاجل قبل أن تتحوّل الأراضي الزراعية الخصبة إلى مناطق موبوءة وغير صالحة للحياة.
وعلى الرغم من الإجراءات القانونية التي اتخذتها جهات حكومية عدة، التي شملت فرض غرامات مالية ورفع دعاوى قضائية، إلا أن بعض المؤسسات لا تزال تواصل تصريف مخلفاتها بشكل مباشر في الأنهار.