منذ سنوات، بدأ التلوث يتسلل إلى مياه الانهار، محملاً بالمعادن الثقيلة والمخلفات الصناعية، ما جعلها غير صالحة للشرب أو الاستخدام الآدمي، رغم محاولات معالجة المياه باستخدام الكلور.
وتزداد المشكلة تعقيدًا مع تزايد السكان في بغداد، الذين زاد عددهم على 9 ملايين نسمة، بينما لا تستطيع محطات معالجة الصرف الصحي القديمة، التي أنشئت في ثمانينات القرن الماضي، مجاراة هذا الارتفاع، مما يؤدي إلى تدفق مياه الصرف الثقيلة إلى النهر دون معالجة.
مشكلات الصرف الصحي
الخبير البيئي تحسين الموسوي، يحذر من المخاطر البيئية والصحية الكبيرة الناتجة عن مشكلات الصرف الصحي في العاصمة بغداد، مشيرًا إلى أن البنية التحتية الحالية لم تعد قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة لسكان المدينة.
يقول الموسوي لـ "طريق الشعب"، إنّ "محطتي معالجة الصرف الصحي الشمالية والجنوبية في بغداد، اللتين أنشئتا في عام 1983 بطاقة تصميمية تبلغ 372 ألف متر مكعب يوميًا لكل محطة، كانتا مخصصتين لسكان يبلغ عددهم نحو مليون ونصف المليون نسمة فقط. ومع مرور الوقت وزيادة عدد السكان، توقفت هذه المحطات عن العمل نتيجة مشكلات فنية ونقص الطاقة، ما أدى إلى تدفق كميات كبيرة من المياه الثقيلة إلى نهر دجلة دون معالجة".
ويضيف، أنّ "هذا الوضع يفاقم الأزمة البيئية في البلاد"، مشيراً إلى أن التلوث الناتج عن الصرف الصحي غير المعالج يسبب أمراضا خطيرة، منها الأمراض المسرطنة والأمراض الوبائية التي قد تظهر على المدى الطويل، مشيرا الى انه "نشهد يوميا حالات نفوق أسماك وفقدان التنوع الأحيائي في الأنهار، إلى جانب انتشار أمراض جلدية وأعراض صحية أخرى مرتبطة بتلوث المياه".
ويردف الموسوي كلامه بأن "مشكلات الصرف الصحي لا تقتصر على العاصمة بغداد، إنما تكاد تشمل جميع المحافظات"، مبدياً أسفَه لغياب الوعي الكامل بخطورة هذا الملف، سواء على مستوى المسؤولين أم المواطنين.
كما يوجه المتحدث انتقاده لوزارة البيئة: دورها يقتصر على إصدار بيانات دون تطبيق القوانين أو معاقبة المتسببين في التلوث، مختتما حديثه بالدعوة إلى تحرك عاجل لمعالجة محطات الصرف الصحي المتوقفة وتطبيق حلول مستدامة.
دراسة بحثية
كشفت دراسة بحثية بعنوان "تقييم مؤشر جودة مياه نهر دجلة بين جامعة بغداد ونهر ديالى"، عن تلوث مياه النهر بمعدلات مرتفعة من المعادن الثقيلة، ما يجعلها غير صالحة للاستخدام البشري، إضافة إلى تأثيرات خطيرة على النباتات والحيوانات.
الدراسة، التي أُجريت لصالح الجامعة التكنولوجية ونُشرت في جريدة المهندسين والتكنولوجيا عام 2021، اعتمدت على جمع عينات شهرية لستة أشهر من خمسة عشر موقعًا امتدت من منطقة جامعة بغداد وحتى نهر ديالى، بسبب وجود عدد من المصانع والمؤسسات الحكومية على ضفتي النهر، مثل شركة المشروبات الغازية، ومصفاة النفط، ومصانع الكيماويات والبلاستيك والجلود، ومحطات الكهرباء، حيث أظهرت النتائج أن تراكم المعادن الثقيلة بنسب مرتفعة في مياه النهر، جعلها غير صالحة للاستخدام البشري، مع أضرار بالغة على الكائنات الحية التي تعتمد على النهر، إضافة إلى ترسبات طينية ملوثة في قاعه.
وأكدت الدراسة، أنّ النفايات السائلة والصلبة التي تتسرب الى النهر لا تتوافق مع المواصفات القياسية الوطنية، ما ساهم في تفاقم التلوث.
وأوصت بضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لإيقاف التجاوزات المتمثلة في تصريف المخلفات الصناعية والمياه الثقيلة من المؤسسات العامة والخاصة، إلى جانب فرض رقابة صارمة للتأكد من توافق المخلفات مع المعايير البيئية، والشروع في تنظيف النهر وتقليل الترسبات الملوثة، مع تعزيز حملات التوعية للمجتمع والمؤسسات لحماية الموارد المائية.
ملوثات فيزيائية وكيميائية
أحمد علي، مسؤول فريق متخصص في شؤون البيئة، يشير إلى نوعين رئيسيين في التلوث المائي: فيزيائي وكيميائي، موضحا أن "المياه الملوثة تحمل كميات كبيرة من المواد الكيميائية، بعضها قابل للتحلل. فيما الآخر غير قابل للتحلل، فضلًا عن احتوائها على فيروسات وطفيليات وبكتيريا تسبب أمراضًا خطيرة تؤثر بشكل مباشر على صحة الإنسان".
يقول علي لـ "طريق الشعب"، إنّ من أبرز الأمراض الناجمة عن التلوث المائي التهاب الكبد الفيروسي، الذي ينتقل عبر المياه الملوثة، إلى جانب الأمراض البكتيرية مثل الكوليرا، التي تشهد البلاد حاليًا تزايدًا في الإصابات بها.
ويضيف، أن الكوليرا ناجمة عن بكتيريا تؤدي إلى مشكلات شديدة في الأمعاء، وحالات إسهال حادة، ما يمثل خطرًا كبيرًا خاصة في المناطق ذات البنية التحتية المتدهورة ونقص إمدادات المياه النظيفة.
ولم تتوقف تأثيرات المياه الملوثة عند الأمراض المعدية فقط، بل تتعداها لتشمل أمراضًا مزمنة وخطيرة، مثل السرطانات المختلفة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتلوث المائي، سواء كان إشعاعيًا أو كيميائيًا أو ميكروبيًا، طبقا للمتحدث.
ويشير علي إلى، أنّ ارتفاع نسب المعادن الثقيلة والملوثات في المياه يؤدي أيضا إلى تفاقم أمراض الكلى، وعلى رأسها الفشل الكلوي.
إحصائيات رسمية
وعلى صعيد الإحصائيات الرسمية، أكدت وزارة الصحة تسجيل ارتفاع ملحوظ في معدلات الإصابة بأمراض خطيرة مثل التيفوئيد، والجدري المائي، والكوليرا، والفشل الكلوي. كما أشارت إلى انتشار أمراض أخرى مرتبطة بالمياه الملوثة، مثل الهيضة، والأميبا، والدزنتري.
وأكدت الوزارة أن هذه الأمراض ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنقص إمدادات المياه النظيفة الصالحة للشرب وسوء إدارة الموارد المائية.
ووفقا لأرقام أعلنت عنها الوزارة في تشرين الأول العام الماضي، فأن الإصابات بمرض الكوليرا تجاوزت 400 حالة، حيث سجلت 119 إصابة في محافظة السليمانية و109 في كركوك في حين سجلت محافظة ديالى 107 إصابات.
ارتفاع معدلات العُسرة
استشارية الأمراض الجلدية، حنين عبد الجبار، تشير إلى أن ارتفاع معدلات العُسرة في مياه الأنهار ومياه الشرب، إلى جانب وجود المعادن الثقيلة فيها، يجعل هذه المياه غير صالحة للشرب أو الاستخدام البشري، حتى لو تمت معالجتها بالكلور، موضحة أن "تأثير هذه المياه يمتد ليشمل الاستعمال الحيواني أيضًا، إذ تضر بصحة الحيوان تمامًا كما تفعل بصحة الإنسان".
وتقول عبد الجبار لـ "طريق الشعب"، إنّ "استخدام هذه المياه في الغسيل يؤدي إلى انتقال الأمراض الجلدية إلى جسم الإنسان، حيث تتسبب في ترسب الأملاح داخل الكلى والمجاري البولية، وقد تصل أحيانًا إلى الجهاز الهضمي، ما يزيد من مخاطر الإصابة بالفشل الكلوي وتكوين الحصى في الكلى والمجاري البولية".
وتذكر الطبيبة، أن "محطات معالجة المياه تعتبر بدائية في تقنياتها وإجراءاتها، إذ تقتصر عملياتها على ترسيب الأطيان العالقة في المياه، مع الاعتماد على ضخ الكلور لمعالجة البكتيريا. ومع ذلك، فإن استخدام الكلور نفسه يحمل مخاطر صحية على جسم الإنسان"، مؤكدة أن "غياب المعالجة الحقيقية للملوثات الأكثر خطورة، مثل المعادن الثقيلة والملوثات الهيدروكربونية، حيث تنتقل مباشرة من الأنهار إلى المنازل". وتتحدث عبد الجبار عن المعاناة التي يعيشها الأطفال المصابون بأمراض جلدية نتيجة المياه الملوثة، قائلة: إنّ "بعض الأطفال يُحرمون من حياة طبيعية مع أقرانهم بسبب أثر الأمراض الجلدية على وجوههم وأجسادهم. هؤلاء الأطفال يعانون من الاكتئاب بسبب المظهر الذي يسبب لهم شعورا بالعزلة، حيث يبتعد أقرانهم خوفا من العدوى".
تلوث مصادر المياه
يقول المتحدث باسم وزارة البيئة، لؤي المختار، بأن العراق يستقبل سنويًا نحو 30 مليار متر مكعب من المياه الجارية، لكن التحديات المتعلقة بالصرف الصحي تؤثر بشكل كبير على البيئة والمياه، مشيرا إلى أن "كمية مياه الصرف الصحي التي تصرف إلى الأنهار دون معالجة تتراوح بين مليار إلى ملياري متر مكعب سنويًا، ما يعادل نحو 3 إلى 6 في المائة من إجمالي المياه الجارية. ورغم أن هذه النسبة قد تبدو قليلة، إلا أن تأثيرها أصبح أكثر وضوحًا في ظل شح المياه الذي تشهده البلاد مؤخرًا".
ويضيف المختار لـ"طريق الشعب"، أنّ "العديد من المدن العراقية تعاني من نقص في شبكات الصرف الصحي الحديثة، خاصة في بغداد والبصرة، حيث لم تعد مشاريع الصرف الصحي القائمة قادرة على استيعاب النمو السكاني المتزايد، الذي بلغ 12 مليون نسمة في بغداد وحده".
ويشير إلى انه "في بعض المناطق، يتم تصريف مياه الصرف الصحي عبر شبكات مياه الأمطار أو بشكل عشوائي إلى الأنهار، ما يتسبب في تلوث مصادر المياه. كما أنّ بعض المشاريع لم تكتمل أو لم تكن فعّالة بما يكفي للتعامل مع حجم المشكلة، خصوصًا في البصرة حيث تسببت الأنظمة غير المجهزة في تحويل بعض الأنهار إلى مصادر ملوثة".
ويشير المختار إلى مشروع الصرف الصحي المركزي في كربلاء الذي تم تنفيذه على مدار عشر سنوات، حيث تم تجهيز المشروع ليشمل معالجة ثلاثية لمياه الصرف الصحي، ما يضمن تصريف مياه نقية بعد معالجتها، ويخدم المدينة والنواحي المجاورة لمدة تصل إلى 20 عاما.
ويلفت إلى أن وزارة البيئة أسست لجنة وطنية لرصد الملوثات وتنفيذ برامج لمعالجة مياه الصرف الصحي في مختلف المدن العراقية، بما في ذلك تحديث قاعدة بيانات المياه والصرف الصحي.
وفي ختام حديثه، يجد المختار أن تحسين شبكات الصرف الصحي يعد أمرًا أساسيًا لتحسين جودة المياه والحفاظ على البيئة والصحة العامة، داعيا إلى زيادة الدعم والاستثمار في هذه المشاريع الحيوية، نظرًا لكونها أساسًا لبنية تحتية مستدامة تدعم التنمية المستقبلية.