في قلب محافظة ميسان، يتربع سوق النجارين كأحد أقدم وأعرق الأسواق التراثية في العراق، شاهدا على أكثر من 150 عامًا من الحرفية والإبداع. وتأسس السوق في عام 1870، ولا يزال يحتفظ بروحه الأصيلة، حيث تنتقل مهنة النجارة من الأجداد إلى الأحفاد، ليظل صدى الأيادي الماهرة يتردد بين جنباتها.
ويعد السوق مركزًا نابضًا بتلبية احتياجات السكان، حيث توفر أدوات الحدادة والنجارة بحرفية لا تُضاهى، تعكسها تصاميم تجمع بين الفن والتراث. وبينما يغزو المستورد الأسواق بجودته المتفاوتة، يبقى إبداع الحرفيين المحليين هنا هو الخيار الأمثل لمن يبحث عن الجودة والمواصفات الفريدة.
غالبيتهم من المندائيين
يسكن أحمد صالح نعمة، سوق النجارين منذ طفولته. ويذكر لـ "طريق الشعب"، أن سوق النجارين ليس السوق التخصصي الوحيد في المدينة، حيث توجد أيضاً أسواق عريقة مثل سوق الصياغ وسوق القصابين، التي تتميز ببيع المصوغات الذهبية واللحوم على التوالي. لكنه يضيف أن سوق النجارين يتمتع بموقع استراتيجي في مركز مدينة ميسان، ما يجعله حلقة وصل بين العديد من المناطق الحيوية، مثل المحمودية، السرير، وسوق الذهب القديم.
ويذكر في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "السوق اشتهرت به الطائفة المندائية، التي تخصص أبناؤها في تصنيع أدوات زراعية مثل المنجل، المسحاة، والقزمة، بالإضافة إلى السلاسل الحديدية ومبردات الحديد".
ويوضح صالح أن هذا الإرث الحرفي جاء استجابةً لاحتياجات المجتمع الزراعي، حيث كانت الزراعة تحتل مكانة كبيرة في ميسان.
ويشير صالح إلى أن سوق النجارين يرتبط وجدانياً بسكان ميسان، حيث أنه ليس فقط مكاناً للتجارة والحرف، بل ممرٌ رئيس يصل بين الأسواق والأحياء الأخرى.
ويؤكد انه "حتى الذين لا يأتون للتسوق من سوق النجارين يمرون به للوصول إلى وجهاتهم الأخرى، ما يجعله جزءاً من حياة الناس اليومية".
ويشير إلى ان :"هذا التداخل بين الجغرافيا والتاريخ جعل من سوق النجارين رمزاً للترابط الاجتماعي والثقافي في ميسان، فهو ليس مجرد سوق تقليدي، بل شاهد على تحولات المدينة واحتياجاتها عبر الأجيال، مما يجعله أحد المعالم التراثية المميزة التي تربط ماضي ميسان بحاضرها، وهو نموذج حقيقي للأسواق التخصصية التي شكلت نسيج الحياة الاجتماعية والاقتصادية في العراق".
رواج اقتناء الصناعات اليدوية
بسام الزهير، وهو أحد أبناء الطائفة المندائية الذين يمتلكون متجراً للنجارة ورثه عن آبائه وأجداده، يقول: "بالرغم من اجتياح المنتجات المستوردة للأسواق العراقية، إلا أن نجاري ميسان، وخاصة أبناء الأهوار، ما زالوا يحرصون على اقتناء هذه الصناعات اليدوية، ومن أبرزها المشحوف، والمنجل، وربد المسحاة، والمردي الذي يُستخدم لتحريك الطرادة أو المشحوف في المياه الضحلة، والغرافة لتسييرهما في المياه العميقة". وأشار الزهير إلى أن المندائيين يحرصون على الحفاظ على هذه الحِرف تقديراً لها كصناعات شعبية وتراثية.
ويبين الزهير، في حديثه مع مراسل "طريق الشعب"، أن تسمية "سوق النجارين" جاءت بسبب كثرة معامل ومتاجر النجارة فيه، إلى جانب وجود محال لصناعة الأدوات الزراعية من الحديد، حيث تُعالج بالنار ثم تدخل إلى الكورة التي تزداد حرارتها".
وأكد، أن أصحاب هذه المهن يسعون لجذب اهتمام الجهات الحكومية المعنية لتقديم المزيد من الدعم لهذه الصناعات، مشددًا على حرصهم على مقاومة اندثارها في ظل اجتياح المنتجات المستوردة للأسواق، لأنها تمثل تراث المدينة وفولكلورها.
وأشار الزهير إلى أن معظم الزبائن الذين يتعاملون معهم هم من "سكان هور أبو نعاج، حيث يثقون بجودة العمل الذي يقدمونه".
واختتم حديثه قائلاً: "يظل سوق النجارين ممرًا يربط بين المهن الشعبية القديمة وبين حاضرٍ يوشك على فقدان هذه الصناعات، إلا أن أثرها يبقى حاضراً ولا يزول".
مركز التقاء الأديان والطوائف
الباحث الأثري عباس الكناني من محافظة ميسان، ذكر أن "سوق النجارين يُعدّ من أقدم الأسواق التراثية في مدينة العمارة. يعود تاريخ السوق إلى الحقبة التي تأسست فيها المحافظة، ويقع ضمن السوق الكبير الذي يؤدي إلى شارع نهر دجلة، أحد المعالم الشهيرة في ميسان".
وقال الكناني لـ "طريق الشعب"، أن "السوق يتميز بكونه نقطة تجمع للطوائف والقوميات المتنوعة التي تسكن المحافظة، بمن في ذلك المسلمون، والصابئة المندائيون، والمسيحيون، بالإضافة إلى اليهود الذين كانوا يقطنون قضاء العمارة ومركز المدينة".
وأضاف الكناني: ان "السوق ما يزال يحتفظ بنشاطه حتى اليوم، حيث يعمل فيه عدد من الحرفيين من مختلف الأطياف، ولا سيما المسيحيين والصابئة المندائيين واليهود. يمتهن هؤلاء الحرفيون صناعات يدوية تقليدية تشمل أدوات زراعية مثل المنجل والفالة والمقوار، إلى جانب منتجات خشبية مثل الجاون والهاون. كما تُستخدم بعض هذه الأدوات في الأنشطة الزراعية، وفي صيد الأسماك في الأهوار.
برغم تراجع الإقبال على هذه الصناعات نتيجة الى انتشار المنتجات المستوردة، يشير الكناني الى ان "الحرفيين لا يزالون متمسكين بمهنتهم في صناعة الأدوات التقليدية التي تلبي احتياجات الفلاحين وأهالي الأهوار".
وأشار الكناني إلى، أن "السوق يتميز بطابعه المعماري التراثي، حيث ما زالت بعض مبانيه تحتفظ بهيئة "الشناشيل" القديمة، مما يضفي عليه طابعاً تاريخياً فريداً".
واكد ان "سوق النجارين شاهد حي على تاريخ محافظة ميسان وإرثها الثقافي، ويظل رمزاً لترابط مكونات المجتمع وتنوعه عبر الزمن".