اخر الاخبار

الوضع الدستوري في العراق يشبه كثيراً ما كان عليه في المملكة المتحدة عند ارتقاء جورج الثالث العرش. فالسلطة السياسية تكمن في البلاط.. ويتعين على البلاط أن يمارس دوره عبر سياسيين محترفين لا ينتظمون في أحزاب سياسية، بل يتمحورون بالأحرى حول عدد ضئيل من الزعماء أو الزعماء المحتملين. ويعتبر نوري السعيد بارزاً بينهم. والولاءات التي تضمن تماسك هذه الجماعات هي تلك القائمة على الصداقة الشخصية والرابطة العائلية بدلا من الالتزام المعتاد بعقيدة سياسية، باستثناء التزام ذي طبيعة عامة تماماً. ويتوقف كل شيء على تأييد البلاط لنيل المنصب. فالملك يعيّن ويقيل رؤساء الوزراء ولا يحتاج إلى أن يولي اهتماماً يذكر لمجلس البرلمان. فأعضاء مجلس الأعيان معينون من قبله والنواب.. يتم اختيارهم عبر عملية يلعب فيها نفوذ النظام درواً كبيراً لدرجة أن قلة من الانتخابات في الريف تشهد تنافساً، فيما تكون فرص انتخاب معارضي النظام في المدن ضئيلة جداً. هكذا، فان اختيار البلاط لرئيس الحكومة وزملائه من الوزراء لا تقرره بشكل مباشر أحداث في مجلس النواب (على سبيل المثال، لم تسقط أي حكومة إطلاقاً كنتيجة لتصويت مناوئ في المجلس) او اعتبارات تتعلق بقوة الأحزاب. إنه يتقرر بالأحرى استجابة لأعم الاعتبارات السياسية، بما في ذلك سلامة النظام ذاته، والتي لا تلعب فيها آراء الجزء المتطور من السكان إلا دوراً ضئيلاً. وفي الواقع العملي، كان ما حدث في السنوات الأخيرة تعاقباً لحكومات شكلت من سياسيين محترفين، ينتمون بشكل أساسي إلى الطبقة العليا من ملاكي الأرض، ولكن بينهم بعض الرجال العصاميين، خصوصاً من الجزء الأكبر الشمالي الأكثر نشاطاً من البلاد، حيث يهيمن الأكراد. وفي الفترات الهادئة، كان الزعماء شخصيات تتمتع باحترام بهذا القدر او ذاك لكنها غير كفوءة، مثل جميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي، أو في الفترة الأخيرة عبد الوهاب مرجان، ممن يحملون آراء محافظة أساساً ويمكن الاعتماد عليهم لمواصلة السياسات القائمة. وفي بعض الأحيان، وكتنازل لمشاعر أكثر ليبرالية، جرى اللجوء إلى شخصية مثل الدكتور الجمالي، وهو مناهض للشيوعية بقوة ويعتبر في الشؤون الداخلية مصلحاً حسن النية ولكن غير عملي إلى حد ما. وفي فترات التوتر، أو عندما يتعين اتخاذ قرارات بعيدة المدى على صعيد السياسة، أو عندما تنفذ في مواجهة معارضة، يتم استدعاء نوري السعيد لتوفير قيادة حازمة أو، إذا اقتضى الأمر، لإعادة النظام.

 

سياسات نوري السعيد

إن السياسات التي جرى تكويرها او اطلاقها خلال حكومات نوري السعيد هي التي حددت المسار الذي اتبعه العراق في السنوات الأخيرة. لقد هيأت الخلفية لبرنامج الإعمار، ولعضوية العراق في حلف بغداد، ولسياسة داخلية أبوية حازمة تستند على الاعتقاد أن لن يكون بالإمكان إعطاء حريات سياسية أكبر وتطوير بنية سياسية أكثر عصرية لتحل مكان النظام الاقطاعي القائم الذي يستند بشكل أساسي على العشائر والجيش ونظام ملكي قوي، إلا عندما يكون استثمار نفط العراق قد أحدث تحولاً في الأوضاع المعيشية والفرص الاقتصادية للشعب. هذه الفكرة الأساسية تحظى بتأييد البلاط ونوري وغالبية من السياسيين النشطاء وكبار المسؤولين، وربما بجزء كبير من المتعلمين من الجيل الأكبر سناً. ومع ذلك، لم يبق نوري في السلطة لفترات طويلة عادة (كانت الحكومة التي ظلت قائمة حوالي ثلاث سنوات وانتهت في حزيران 1957 استثناء)، لأن الوصي لا يعتقد بإبقاء أي شخص في المنصب لمدة أطول مما يقتضيه وضع معين. والهدف السياسي للبلاط هو في الواقع الحفاظ على مكانة ونفوذ العائلة الهاشمية وضمان أن تعتمد الحكومات على رعايتها لا على رعاية البرلمان أو الأحزاب السياسية. لذا يتم إجراء تغييرات بانتظام بما يضمن ألا تحتكر أي جماعة السلطة وتتمكن من أن تبني لها موقعاً يمكنها فيه أن تتحدى امتيازات البلاط ذاته. ويثير هذا الوضع استياء معظم السياسيين المحترفين تقريباً.

 

«المعارضون أحرار.. في مجالسهم الخاصة»!

المعارضة تشبه كتلة الجليد العائمة. وذلك الجزء الذي يظهر منها فوق سطح الحياة السياسية ليس كبيراً. انه يضم بضع شخصيات بارزة، وليس قادة حقيقيين. والشخصيات الرئيسية هم محمد صديق شنشل وفائق السامرائي ومحمد مهدي كبة، بالإضافة إلى كامل الجادرجي الذي لا يزال في السجن. ولا يؤلف هؤلاء الرجال ورفاقهم «زمرة رثة» فرخاؤهم المادي متميز. وهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى المدنية، وفي الغالب محامون ورجال أعمال وأساتذة جامعيون ومدرسون. وكانوا في السابق أعضاء في حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي المنحلين حالياً. لكن رغم أنهم لا يملكون الآن آلية حزبية لطرح آرائهم ويقاطعون عادة، كما في الوقت الحاضر، الانتخابات إلى مجلس النواب، فإنهم لا يلزمون الصمت او يختفون. قد لا يعقدون اجتماعات عامة او يعبّرون عن معارضتهم النظام ذاته في الصحافة، لكنهم يتحدثون بحرية في لقاءات خاصة وقد تمكنوا في العادة حتى الآن، على صعيد أي قضية معينة، من العثور على نواب يحملون آراء قريبة تماماً من آرائهم ليتكلموا جهاراً في البرلمان حيث لا توجد قيود كثيرة على حرية الكلام عدا التحريض على الفتنة. (سيكون هذا الاحتمال أضعف في البرلمان الذي سينتخب في 5 أيار لأن الحكومة قررت، مع توقع قيام «الاتحاد العربي» فوراً، أن يجب الا يكون هناك خطر سماع أصوات معارضة، وبالتالي أصبحت أكثر انتقائية من المعتاد في تقديم الدعم للمرشحين). وحقيقة أن المعارضة تعبّر تجاه قضايا كثيرة عن آراء تحظى بتأييد أناس كثيرين، خصوصا من الجيل الأصغر سناً، وتمتاز بجاذبية عاطفية بالنسبة إلى معظم الناس، انما تمنحهم نوعاً من الثقة والقوة رغم أنهم لا يستطيعون أن ينشطوا سياسياً.

 

ماذا تريد المعارضة؟

إن النقاط الرئيسية التي تطرحها المعارضة هي الليبرالية والإصلاح في الداخل والحياد في الخارج. على صعيد النقطة الأولى، يشددون المطالبة بحريات كاملة في التعبير والتنظيم والانتخابات، وأن ينبغي للعراق أن يملك الشكل بنفسه من الديمقراطية كما لدينا في المملكة المتحدة. وهم يرون أنه إذا جرى السماح بحرية سياسية أكبر فانه سيحدث هيجان في البداية لكن سرعان ما سيهدأ. ويدعون (الأرجح الا يكون صدقاً في كل الحالات) انهم لا يعارضون الحكم الملكي بل يعارضون فقط احتفاظه بسلطة مفرطة. ويقولون إنهم يرغبون في الاحتفاظ بملكية دستورية، لكن يعبرون في الوقت نفسه عن شكوكهم في ما إذا كان البلاط سيوافق على مثل هذا الحد من نفوذه. ويبدي الأكثر تعقلاً بينهم استعداده للاعتراف بأن إلغاء كل القيود بشل مفاجئ سيكون طائشاً وان التوجه إلى النمط البريطاني للديمقراطية يجب أن يكون تدريجياً.

وكخطوات فورية يطالبون بالسماح بتشكيل أحزاب والسماح للمعارضة بالعمل في مجلس النواب. بخلاف ذلك، يطالبون بتحديث أسرع للنظام الاقطاعي لملكية الأرض في مناطق العشائر ولهيكلية الضرائب، وبإصلاح الإدارة.. إنهم يدعون أن هدفهم الرئيس هو توزيع الأرباح من استخراج النفط بشكل أوسع على الشعب لكن يميلون إلى تجاهل المصاعب المتأصلة التي تنجم عن التسريع بذلك.

 

وفي المجال الخارجي

على صعيد الشؤون الخارجية.. ينظر هؤلاء إلى مصر وجمال عبد الناصر بوصفه زعيمهم. انهم يرغبون في انضمام العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة، لكن يبدو أنهم يفتقرون إلى الوضوح في قرارة أنفسهم في شأن المدى الذي يريدون للعراق أن يطمس خصوصيته في قضية الوحدة العربية أو أن يتخلى عن عائدات النفط لصالح المعدمين. وهم يزعمون أن بالإمكان الاستفادة من الاتحاد السوفيتي وصداقته من دون تعريض العالم العربي إلى الهيمنة الشيوعية في النهاية، ويشيرون إلى قمع الشيوعيين في مصر وسوريا كمؤشر على ذلك. ويدعون أنهم ليسوا معادين للغرب، بل يؤكدون فعلاً بصدق واضح أنهم يرغبون في إقامة علاقات ودية مع الغرب الذي سيستمرون في التجارة معه وبيع نفطهم له. ويفسرون تقارب مصر مع الاتحاد السوفيتي بالأخطاء التي يعتقدون أن الغرب ارتكبها في ما يتعلق بإسرائيل والسويس والجزائر. ويعتقدون انهم سيتمكنون، إذا ما كانوا في السلطة، من الحفاظ على علاقات جيدة مع كل القوى العظمى ويطالبون بألا يرتبط العراق بمعاهدات بأي منها. ويعتبر حلف بغداد، بالطبع، أحد أهدافهم الرئيسية. وهم يرون أنه فرض على البلاد من قبل البلاط ونوري بهدف تقسيم العالم العربي والحد من أهمية ناصر. وموقفهم تجاه المملكة المتحدة ليس معادٍ في الجوهر، لكن يزعمون أن لبريطانياً يداً في معظم القرارات التي يرفضونها، وبشكل خاص في استمرار سلطة ونفوذ الوصي ونوري، لذا يميل موقفهم السياسي إلى العداء تجاه بريطانيا. وهم يتبعون أساساً بالطبع نهج الرئيس عبد الناصر القومي المناهض للغرب والمعادي بقوة لإسرائيل.

 

«النزعة الجمهورية ليست محلية»!

إذا أمكن للعراق ان يبقى اساساً في منآى عن تأثير العالم الخارجي، فسأكون مطمئناً إلى أن النظام سيتمكن من الحفاظ على استقراره في مواجهة ضغوط المعارضة التي تعززها ضغوط الطبقة الوسطى المحبطة، وسأتوقع للبلاد ان تستمر في مسارها الحالي إلى أمد غير محدد بهذا القدر أو ذاك. والواقع انه لم يتوفر للعراق الوقت بعد في حياته القصيرة لتكوين مجتمع موحد. هناك دائماً حساسية كامنة بين الشيعة والسنة، ورغم أن وضع الأكراد يميل إلى الاستقرار بشكل جيد فان مخاوفهم من هيمنة العرب ليس بعيدة تحت السطح. بالإضافة إلى ذلك، يجري استغلال الفجوة الواسعة بين الحكومة والشعب، الناجمة عن قرون من الاحتلال العثماني والتي يجري ردمها ببطء فحسب، بشكل فاعل من قبل أجهزة الدعاية المصرية، مما يؤدي إلى أن تلقى الإجراءات غالباً معارضة من جانب أبناء الطبقة الوسطى الأصغر سناً والأكثر راديكالية بالإضافة إلى الناس العاديين، وذلك لمجرد انها تتخذ من قبل الحكومة. ورغم ذلك، هناك عوامل قوية تدعم الاستقرار في البلاد، فالنظام العشائري، رغم أنه يحتضر لم يمت بعد وزعماء العشائر يدعمون بقوة الحكم الملكي الهاشمي. ويبدي الأكراد، رغم إحساسهم بالقلق في شأن وضعهم، مناعة تامة تجاه الدعاية القومية العربية. ولأنهم يساهمون في «المؤسسة الحاكمة» بحصة كبيرة لا تتناسب مع عددهم فانهم يؤدون دور وسيط نافع. ورغم ان الجيش اقتحم الحياة السياسية في السابق فانه لا يظهر في الوقت الحاضر أي مؤشرات على القيام بذلك، وإذا استمر في الحصول على قيادة جيدة وإذا استمرت مراعاة مصالح الضباط ونواب الضباط فإن من المحتمل ان يستمر دعم النظام. ويمتاز الوسط التجاري بأنه محافظ عموماً، ويتجلى هذا بشكل خاص في مدينة البصرة التي نادراً ما تسمح لنفسها بالانجرار وراء النزعة القومية العربية. ولم يتسن للملكية ان تمد جذورها بعمق، لكن معظم الأشخاص الواعين يدركون أن العراق بدونها سيتفكك على الأرجح، وهم بالتالي يدعمونها باعتبارها الشكل الممكن الوحيد للحكم. فالنزعة الجمهورية في العراق هي الآن إحدى مظاهر الناصرية وليست حركة محلية.

 

عبد الناصر هو السبب؟

لكن العراق بأي حال لن يترك لحاله في قبل الرئيس ناصر (...) ويتمثل الخطر الذي سينشأ في أن تأثير عبد الناصر على المشاعر القومية في العراق سيكون قوياً لدرجة تكفي لزيادة تذمر العراقيين من النظام إلى حد الإطاحة به. وستكتسب المعارضة أهمية في مثل هذا السياق بالذات أو في وضع آخر حرج على مستوى مماثل من الخطورة. لكن كما هو الحال في معظم الأوضاع التي يوجد فيها رتل خامس محتمل، يلعب قادة المعارضة دوراً أهم كناطقين بلسان جماعات أكثر من كونهم قادة فعليين. وبالفعل، إذا نشأ لسبب أو لآخر وضع ثوري في العراق، فان من المستبعد إلى أبعد حد أن يلعب أي من الراديكاليين الأثرياء الموجودين على قمة كتلة الجليد الطافية أي دور مهم. الاحتمال الأكبر بكثير هو ان يخرج زعيم من بين المثقفين او ضباط الجيش الأصغر سناً، والأرجح من المرتبة الأدنى للطبقة الوسطى. ولأن مثل هؤلاء الزعماء يميلون بحكم طبيعة الأشياء، إلى الظهور فقط في وضع ثوري فان من المستحيل القول ما إذا يوجد بالفعل زعيم ثوري محتمل.

 

لا وضع ثوري!

فمن المؤكد تماماً انه لا يوجد، في الوقت الحاضر، وضع ثوري. فرغم أن عبد الناصر بعد سنة أمضاها في استعادة عافيته بعد (قضية) السويس، بدا التحرك مجدداً في تشرين الأول الماضي بنقل قوات إلى سوريا وعزز التهديد حالياً عبر قدرته على الظهور بشكل مثير في أعالي نهر الفرات، ما يكسب دعايته قوة أكبر بكثير في العراق. لكن الوضع الأمني الداخلي حالياً تحت السيطرة بشكل محكم تماماً. وليس هذا مجرد نتيجة لإجراءات قمعية. فما عدا التشويش بشكل متقطع على إذاعة القاهرة ودمشق في المدن الرئيسية الثلاث، لم تكن هناك ضرورة لاتخاذ أي اجراء أمني ذي شأن.

 

والهياج الذي شهدته بضع كليات ومدارس عقب اعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة لم تتفاقم إطلاقاً، ولم تظهر حتى الآن أي من المشاعر العميقة التي كانت واضحة خلال أزمة السويس (والتي ستظهر حالاً مرة أخرى إذا أقدمت إسرائيل على خطوة متطرفة ضد أي من البلدان العربية). بالإضافة إلى ذلك، تزايدت بشكل ملموس كفاءة جهاز الأمن العراقي خلال السنة الماضية، ويرجع الفضل في ذلك بشكل أساسي إلى المساعدة البريطانية بالتدريب والمعدات، في الوقت الذي أضعف فيه لدرجة كبيرة الأساس التنظيمي لمعارضة فاعلة ضد النظام عبر ضربات قوية وجهت إلى الحزب الشيوعي السري ويقظة أكبر تجاه تنظيم البعث السري وسفارة الجمهورية العربية المتحدة في بغداد. ومع ذلك فان الهدوء مضلل بعض الشيء. فقد تمكن عبد الناصر بإنشاء الجمهورية العربية المتحدة من تحريك القومية العربية وإثارة شهية كل العراقيين تقريباً إلى المزيد. واستجاب الرد السريع بإنشاء « الاتحاد العربي» للحاجة الملحة للوضع، لكن جاذبية عبد الناصر وحيويته لا تزال قائمة، بينما لا يتضمن دستور «الاتحاد العربي» مثل كل الوثائق المماثلة إلا المزايا العادية، ولا يرى معظم العراقيين سوى أعباء «الاتحاد» ولا شيء من منافعه.

 

«الخطر من الخارج»!

بما ان الخطر الحقيقي على النظام، ممثلا بشكل رمزي في المعارضة لحالية، يأتي من خارج البلاد، فان هناك حدوداً لما يمكن لأي حكومة عراقية أن تفعله عبر إجراءات فاعلة داخل البلاد للتقليل منه. فهم (الحكومة) يدركون ان التطور الاقتصادي ساهم بالفعل في تحقيق الاستقرار وأن عليهم أن يمضوا قدماً ويمدوه على نطاق أوسع وسط السكان ككل. ويرى كثيرون منهم أن هناك ايضاً أفقاً كبيراً لإجراءات اجتماعية واقتصادية تقدمية وهم مستعدون للشروع بها. ومع ذلك لا توجد مؤشرات كثيرة على أن هذا سيحدث بالسرعة التي يقتضيها الوضع. فالسياسة الاجتماعية للبلاط ولنوري هي سياسية.. تستند على حقيقة ان زعماء العشائر وملاك الأرض الآخرين يشكلون القوة الباعثة على الاستقرار الأكثر أهمية في البلاد، وهي قوة سيكون من الخطورة استبعادها قبل ان يكون الاقتصاد والمجتمع العراقي قد أصبحا أكثر تنوعاً وأكثر عصرية مما هما عليه الآن (...).

رغم ذلك لا اعتقد أن الفقر او انعدام الفرص الاقتصادية بحد ذاته سيؤدي طالما يتدفق النفط، إلى نشوء وضع متفجر. الخطر الأكبر يكمن في الميدان السياسي وفي تلاعب ناصر بمشاعر الإحباط الناجمة عن انعدام منافذ للتعبير الحر وللنشاط السياسي. إن الاستياء من حجب الحريات السياسية يقف بلا شك وراء الكثير من عدم شعبية النظام وشعبية عبد الناصر. لذا فإن إحدى المسائل المهمة هي ما إذا يمكن تخفيف بعض الضغوط على النظام بإعطاء مزيد من الحرية السياسية، أي بالاستجابة للمطلب الرئيسي للمعارضة.

 

«بعض التنفس ممكن ومطلوب»

إن تخفيفاً كلياً للقيود الحالية على حرية التعبير بالاقتران مع انتخابات حرة بشكل كامل سيؤدي خلال فترة قصيرة جداً إلى فوضى وربما ثورة. ومع ذلك، فان كل خطوة صغيرة في هذا الاتجاه لن تؤدي إلا إلى زيادة الضغوط نحوه، لذلك يمكن تفهم التردد الذي أبداه البلاط والحكومات المتعاقبة. ان الخطوة التي يحتمل بدرجة أكبر أن تشيع احساساً بالرضا على الفور والتي يمكن، إذا كانت ناجحة، أن تفضي إلى تخفيف تدريجي (للقيود) هي تشكيل أحزاب سياسية. لكن هذا لن يكون تصوراً يحظى بترحيب كبير من قبل البلاط ويجب الاعتراف انه ستكون لدى البلاط مبررات جيدة للاعتقاد بأن النتائج العملية (لهذه الخطوة) لن تكون مفيدة، اذ سيكون من المشكوك فيه أن تؤدي إلى استقرار سياسي أكبر مما عندما جرى الترخيص للأحزاب في السابق.. إن الوضع الحالي في العراق سيؤدي لا محالة إلى ما سيكون عملياً حزبين فقط، أولئك الذين يقفون مع النظام وسياساته الحالية وأولئك الذين يؤيدون الرئيس عبد الناصر. وبما أن الأخير سيجنح نحو الانحراف إلى إثارة الفتنة او على الأقل إطلاق تصريحات تثير الفتنة، فان حزبهم قد يقمع خلال فترة قصيرة جداً ولن يجنى من ذلك شيء سوى زيادة في الإحساس بالمرارة ضد الحكومة. لكن، مع ذلك، يجادل كثير من العراقيين المعتدلين بأن بعض التنفيس ممكن ومرغوب فيه على السواء، وانه سيكون بالإمكان إبقاء المعارضة ضمن حدود السيطرة. وأنا أميل إلى وجهة النظر بأن هذا ربما يستحق تجريبه. ورغم أن المخاطر واضحة، أعتقد أنها أقل من تلك التي ستنجم عن استمرار قمع سياسي كامل. والحقيقة انه لو تمكن واحد او أكثر من الأحزاب اليمينية أن ينشئ قادة يتصفون بجاذبية لدى الجزء الواعي سياسياً بين السكان، فأنها قد تتمكن من امتصاص بعض مساوئ نظام الحكم وتخفف عن البلاط الكراهية الناجمة عن الإبقاء على الإجراءات القمعية. لقد جرّب نوري هذا النهج في الماضي لكنه فشل في ظل ظروف سياسية ربما كانت أقل صعوبة، لأن الرئيس عبد الناصر لم يقف حينها في أعالي الفرات. وليس مستبعداً ان يتمكن رجل أصغر سناً ويملك قوة الشخصية وسعة الأفق نفسها، ولكن مع جاذبية مباشرة أكثر لدى الجمهور، أن ينجح في المستقبل. وكل ما يمكن للمرء أن يقوله هو أن مثل هذا الشخص لم يظهر بعد. هناك بضعة رجال في الحياة السياسية ممن يملكون بعض الخصال المطلوبة، مثل خليل كنه، الرئيس السابق لمجلس النواب، وسعيد قزاز وزير الداخلية. لكن الأول.. يستفز الناس بطموحه الواضح تماماً لخلافة نوري. اما الثاني فانه كردي لا يستطيع ان يستجيب لعواطف النزعة العروبية.. أما بالنسبة إلى الدكتور فاضل الجمالي فهو رغم ما يتصف به من شجاعة ونزاهة تثير الاعجاب، ليس رجلاً كبير الشأن لدرجة كافية او كفوءاً لدرجة تمكنه ان يقود هذا البلد المضطرب من دون ان تسنده خبرة نوري.

 

في الأفق استبداد أشد

الحقيقة هي أنه ليس هناك أي خلف واضح لنوري ولا توجد إمكانية لشغل موقعه من قبل حزب سياسي. ويبدو الأفق بالنسبة إلى النظام السياسي في العراق قاتماً بعض الشيء فعلاً، لأن من الصعب أن نرى كيف يمكن جعله أكثر مرونة وقدرة على البقاء. وبالفعل، عندما يحين الوقت ليغادر نوري المسرح السياسي، قد لا يكون هناك أي بديل لنظام أكثر استبداداً يستند إلى الجيش مع ضابط يكون الرجل القوي وراء رئيس صوري مدني. ولا يمثل ذلك أفقاً جذاباً نظرا لخطر عدم الاستقرار الذي سينجم عن بروز ناصر عراقي أو عبر التنافس بين ضباط الجيش على السلطة. وسيوفر، بالطبع، هدفاً سهلاً لهجمات المعارضة وناصر، وسيكون بغيضاً إلى نفوس أولئك الذين يتذكرون فترة 1936- 1941 التي هيمن عليها الجيش. لكنه ربما يكون أحسن ما نستطيع ان نأمل فيه. وبشرط ان يكون مستنداً على الحكم الملكي الهاشمي فالأرجح ان يبقي على الارتباط بالغرب وقد يحتفظ بمواقعه لبعض الوقت.

 

النفط.. النفط!

هل هناك ما نستطيع والأميركيون أن نفعله لمساعدة العراقيين على الانتقال بهدوء إلى الوضع الجديد الذي سيواجهونه عندما لا يعود نوري موجوداً، ولإبقاء الضغوط من المعارضة في مستوى يمكن احتماله؟ إن المجال أمامنا محدود في الحياة السياسية الداخلية. ولا شك اننا نستطيع عبر المشورة والتشجيع أن نساعدهم على بناء مؤسسات حديثة سليمة (...) يجب ان نقف إلى جانب العراق، بالطبع، إذا حدث أي شيء يعيق تدفق النفط إلى البحر الأبيض المتوسط لكن هناك حداً للنفوذ الذي يمكن أن نمارسه بشكل فاعل لتأمين تبني ميول اكثر ليبرالية في الحياة السياسية، وهذا، كما لمحت أعلاه، هو المجال الذي يتفشى فيه التذمر (...) اذا كان الرئيس ناصر هو الرجل الذي سيتعاون بإخلاص مع الغرب ومع العراق، متجنباً أي طموح للسيطرة على النفط العراقي وزعزعة النظام في العراق واتخاذ موقف ممالئ للشيوعيين او محايد، فان هذا سيكون شيئاً آخر. وفي غياب هذا الاحتمال، يجب أن يمارس العراق عملية استعداد طويلة الأمد ويجب على بريطانيا والولايات المتحدة ان تكونا مستعدتين للوقوف إلى جانبه ومساعدته. 

عرض مقالات: