اخر الاخبار

كان سجن الباستيل وهو رمز القوة والقبضة الحديدية بيد ملوك فرنسا خالياً من السجناء حين اقتحمه المتظاهرون في الرابع عشر من تموز 1789 باعتباره رمزاً للاستبداد السياسي فجرت مواجهة عنيفة ودامية مع الحراس انتهت باستسلامهم والقاء القبض على محافظ السجن الماركيز «دي لوني» حيث تم قطع رأسه من قبل الجماهير المنتفضة وجابت به شوارع باريس التي أصبح « ماكسيمليان دو روبسبير « مسيطراً على الحكومة واتخذ من مجلس البلدية مقراً له وبدأ في القضاء على كل من اعتبرهم (أعداء الثورة) وشمل ذلك معظم زعماء الثورة الفرنسية حيث عرف ذلك بعهد الإرهاب فيما كان لا يزال يتمتع بتأييد المجتمع الباريسي ولذلك انتخب رئيساً للمؤتمر الوطني. لقد تحول روبسبير من ثائر إلى دكتاتور لا يعرف الرحمة والشفقة حتى مع أقرب الناس اليه فساق الآلاف إلى المقاصل حتى قيام رفيقيه باراس وتاليان بتجهيز قوة عسكرية لاقتحام مقره وسوقه مع مائة من اتباعه ثم إعدامهم جميعاً. لقد شهدت باريس مذابح وحرائق وقامت مجموعات مسلحة من الفلاحين في آب عام 1789 بمهاجمة النبلاء في قصورهم كما قامت الجمعية الوطنية بإلغاء نظام الاقطاع وحقوق الاقطاعيين في الأراضي الزراعية وفقدت الكنيسة والنبلاء جميع الامتيازات.

في 30 سبتمبر من عام 1791 وقع الملك لويس السادس عشر مرسوم الدستور الجديد لكن الفرنسيين عادوا للاحتجاج وقامت الحشود بمحاصرة القصر الملكي وحدثت مجزرة جديدة تم فيها ذبح الحراس وتوالت الأحداث، فبعد مجزرة قتل فيها ألف وأربعمائة مواطن الغي النظام الملكي وتم إقرار النظام الجمهوري وأصبح يوم 22/9/1792 تاريخاً للجمهورية الأولى.

في السادس عشر من كانون الثاني من عام 1793 تم إعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت واستمر العنف حيث قطعت رؤوس ستة عشر ألف مواطن بتهمة معاداة الثورة وكانت العربات التي ينقل فيها المتهمون إلى المقاصل مكشوفة فيما يحتشد مئات الآلاف من الباريسيين لمشاهدة احتفالية الموت هذه.

اليوم يحتفل الفرنسيون بعد قرنين وثلاثة عقود من الزمن بذكرى ثورتهم التي انهت عهد الاقطاع ومثلت تاريخاً جديداً ليس لفرنسا وحدها وانما للبشرية جمعاء ارتباطاً بالتحول التاريخي الذي جاءت به الثورة الصناعية إضافة للمضامين المتعلقة بحقوق الانسان والحريات العامة. وبالتأكيد لا يمكن نسيان ما حصل من مجازر رافقت هذه الثورة إلا أنها مثلت للفرنسيين تلك الروح الحية التي انتفضت على الاستبداد وأسست فيما بعد وعبر سلسلة طويلة من الصراعات والانتكاسات والنجاحات ذلك الوهج المستمر الذي رسم ملامح فرنسا وجعلها موطناً للحرية تلك التي اعتبرها جان جاك روسو (صفة أساسية للإنسان وحق غير قابل للتفويت فاذا تخلى الانسان عن حريته فقد تخلى عن انسانيته وعن حقوقه كانسان).

بعد مائة وتسعة وستين عاماً حدث في العراق وفي مثل ذلك اليوم الذي انفجرت فيه الثورة الفرنسية 14 تموز حدث انقلاب عسكري ما فتئ أن تحول إلى ثورة عارمة خرج فيها الشعب العراقي كما لم يخرج من قبل مؤيداً التغيير الذي قاد إلى الغاء النظام الملكي وتأسيس الجمهورية ووسط هذا الهياج الشعبي قامت مجموعات من المتظاهرين بارتكابات لم يخطط لها لكنها كانت تعبيراً عن الحقد الدفين إزاء رموز النظام الملكي واختارت الجماهير أن تمثل في جسد شخصيتين فقط هما الوصي عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد حيث كان الرأي العام يحملهما مسؤولية الجرائم التي ارتكبت طيلة العهد الملكي. كما عبرت الجماهير عن غضبها بأسقاط تمثال الجنرال مود رمز الاستعمار البريطاني.

في صبيحة يوم الثورة قام ضابط متهور عرف بعدم اتزانه بقتل العائلة المالكة ولم يمثل أحد بجسد الملك وحاشيته باستثناء عبد الإله. كما قتل أحد المسؤولين الأردنيين فيما لم يعرف السبب الحقيقي وراء الجريمة حتى الوقت الحاضر، لكن المدونين ذكروا أن مقتله كان محض صدفة حيث خرج في ذلك الوقت المتوتر والمشحون عاطفياً وكأن من قتله أراد التعبير عن رفض مشروع الاتحاد الهاشمي الذي لم يجد فيه العراقيون سوى مشروع مناوئ للوحدة العربية التي قامت بين سوريا ومصر.

إن التغيير الذي حدث في 14 تموز عام 1958 لم يفاجئ أحداً فقد تشكلت جبهة الاتحاد الوطني من عدد من الأحزاب السياسية السرية والعلنية وكان ذلك تعبيراً عن رفض المجتمع للنظام السائد، كما أن حركة الضباط الأحرار كانت قد تشكلت منذ مدة طويلة وحاولت القيام بانقلابات عسكرية في أوقات متعددة، وقبل ذلك حدثت انقلابات من بين أهمها انقلاب بكر صدقي في عام 1936 والذي انتهى باغتياله فيما بعد في الموصل من قبل القوميين المتشددين، وانقلاب العقداء الأربعة في عام 1941 الذي انتهى باحتلال جديد للعراق حيث قامت القوات البريطانية الموجودة في قاعدة الحبانية بالزحف على بغداد والقاء القبض على قادة الانقلاب (الوطنيون من ذوي النزعة القومية) وتم إعدامهم وتعليقهم في ساحات العاصمة بغداد. ولم تكن الأوضاع مستقرة طيلة العهد الملكي فقد حدثت انتفاضات عديدة للفلاحين واعتصامات للعمال خسر فيها شعبنا العديد من ابنائه ضحية العنف الذي مارسته السلطة الجائرة، وشهد العراق انتفاضات في أعوام 1948 و1952 و 1956 وتم إعدام قادة سياسيين ومنتفضين و تعليق جثثهم في الساحات كما حصل في انتفاضة مدينة الحي او تعليق جثث قادة الحزب الشيوعي او قادة حركة مايس 1941، وخلال عمر النظام الملكي حدثت مجازر في حروب شنت ضد الثوار الأكراد وكذلك الجريمة الكبرى التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف شخص في الحرب على الأشوريين عام ،1933 ومن المؤسف أن النظام السياسي كان يقلد ضباطه بالأوسمة والنياشين بعد كل معركة يخوضها النظام ضد معارضيه.

إن ما حدث في 14 تموز 1958 يعتبر في عرف الثورات لإنها من الثورات النظيفة حيث لم تسفك فيها دماء كثيرة إلا ما ذكرناه، وفي المقاييس والاعتبارات فأن المقاربة التاريخية بين الثورة الفرنسية والدماء التي سالت وبين الثورة العراقية كحدثين مهمين في التاريخ العالمي تدفعنا للتساؤل عن الكيفية التي تتصرف بها الشعوب إزاء مثل هذه الأحداث ففي حين أن الشعب الفرنسي ومفكريه وقادته على اختلاف توجهاتهم يفتخرون بثورتهم، نرى أن بعض السياسيين لا يجدون في ثورة 14 تموز وانجازاتها غير مقتل العائلة المالكة وهو عمل لا يقره منطق لكن لا يجب التوقف عنده ابداً وهو الأقل كلفة فيما تحقق من انجاز. كما أن البعض لا يزال يحمل ثورة تموز ما حدث لاحقاً بعد قيام الأنظمة الدكتاتورية وبعد الاحتلال في عام 2003 وهو تصور وتصرف لا يندرج تحت عنوان من الفهم الناضج للأحداث التاريخية.

من هنا تأتي خطوة وزارة الثقافة باختيار يوم باهت في حياة العراقيين وهو الانضمام إلى عصبة الأمم ليكون عيداً وطنياً لبلادنا فهو لا يحمل دلالات وطنية ولن يكون بديلاً عن ذلك الحدث الهائل الذي خرج فيه العراقيون على اختلاف تمايزاتهم مرحبين بزوال نظام العبودية والصرائف والفقر والأمية والفساد الذي يراد عدم تذكره مع ان جميع من حكم البلد ابتداءً من الملك إلى أصغر مسؤول قد حاز على الأموال والأملاك والأراضي بطرق غير مشروعة.

لم يكن انضمام العراق لعصبة الأمم لنيل استقلالٍ شكلي من دون ثمنٍ باهض فقد أُلزم العراق بتوقيع معاهدة 1930، هذه المعاهدة التي نقلت العراق من حالة الانتداب التي كان عليها إلى وضعية الاحتلال الشامل حيث منحت التاج البريطاني إضافة لقواعد عسكرية في الجنوب وفي شمال بغداد الحق في التدخل الكامل بشؤون العراق وسياساته الإقليمية والدولية وربطت اقتصاده وكل ما يتعلق بالتجهيزات العسكرية بالبلد المحتل بريطانيا ولمدة خمسة وعشرين عاماً. وحين قاربت الاتفاقية على الانتهاء أدَخل النظام الملكي نفسه في حلف السنتو المعروف بحلف بغداد حيث أصبح العراق طرفاً في الأحلاف العسكرية وصراعات الدول العظمى.

وللأسف ينبري البعض من المثقفين بالدفاع عن سياسات نوري السعيد على أنها اجتهادات حصلت من اجل العراق ومصالحه كما لو أن الدول ما كان لها ان تبنى من غير علاقة غير متكافئة مع بريطانيا تتنازل فيها الدول عن سيادتها وحقوق شعوبها.

ستظل ثورة 14 تموز غرة في الجبين الناصع لزعيم نزيه عفيف وستبقى مخلدة في ضمائر العراقيين مهما طال الزمن وسيحتفلون في كل عام فهي عيدهم الوطني الكبير.

عرض مقالات: