أبدى مراقبون للشأن البيئي والصحي قلقا شديدا من تأثير ما يسمى «القاتل الصامت»، أو الملوثات الكيميائية، التي تستهدف عددًا متزايدًا من العراقيين سنويًا، في ظل غياب الإجراءات الوقائية الفعّالة من قبل الحكومة، وتدهور العمل في القطاعات المعنية.
وكشفت صحيفة الغارديان البريطانية، منتصف العام الماضي، عن معدلات انتشار امراض سرطان الدم في العراق، نتيجة لعمليات القصف الأمريكي بالأسلحة المحرمة دوليا، مؤكدة أنها «اعلى بأضعاف» من المعدلات التي اصابت اليابان بعد القاء القنبلة الذرية على هيروشيما القرن الماضي.
وذكرت الصحفية وفقاً لدراسة قامت بها جامعة «اولستر» البريطانية، أن معدلات الإصابة بمرض اللوكيميا في المناطق القريبة من موقع انفجار القنبلة الذرية في اليابان، ارتفعت بنسبة 660 في المائة بعد مرور اثني عشر الى ثلاثة عشر عاماً، حيث النسبة الأقوى لتركز الاشعاع. اما في الفلوجة، وهي محط الدراسة التي كشفت عن تفاصيلها الصحيفة، فقد ارتفعت معدلات الإصابة بمرض سرطان الدم- اللوكيميا الى نحو 2200 في المائة بعد مرور عشرين عاماً على عمليات القصف التي قامت بها القوات الامريكية على المدينة.
ارتفاع الاعداد
تقول موظفة في صحة البصرة، منار عامر، إن «معدلات التشوه الخلقي ومرض اللوكيميا (سرطان الدم) وسرطان الثدي، ارتفعت اعدادها خلال السنوات الأخيرة، وذهب ضحيتها العديد من الأطفال والشباب في ظل وجود تحديات مالية».
وتضيف عامر لـ «طريق الشعب»، أن «اللوكيميا انتشرت بسبب التلوث الناجم عن عمليات انتاج النفط ومشاعل الغاز المستمرة، التي تحيط المجمعات السكنية»، مشيرة الى ان «منطقة الرميلة هي اكثر المدن تأثرا بالملوثات الكيميائية».
وتشير إلى وجود تحديات عديدة تقف بالضد من معالجة تلك الملوثات، منها ما يتعلق بالقطاع الصحي الذي يعاني من نقص الادوية والمستلزمات الطبية وبعض التخصصات المهمة بالإضافة الى قلة التخصيصات المالية ومشاكل تتعلق بالقطاع البيئي وعدم الالتزام بالمعايير والمواثيق الدولية وغياب التشريعات والآليات الصارمة، التي تسهم في معالجة هذا المشاكل الخطرة، الى جانب مشاكل تتعلق بالفساد والمحسوبية وسوء الإدارة في المؤسسات المعنية بهذا الملف.
وتحذر عامر من ان يصبح مرض السرطان مشابها للإنفلونزا، ما لم يكن هناك تعاون وتحرك سريع من قبل الحكومة، مؤكدة أن مكافحة تلك تتطلب عقدا من الزمن.
وتشير الى ان «المواد الكيميائية وحتى النفايات تشكل موردا مهما لكثير من الاقتصادات العالمية، الا ان موضوع ادارتها بشكل سليم امر ضروري، لأجل تجنب اضرارها التي لا ترحم، حيث تهدد صحة الإنسان والنظم الإيكولوجية وتتطلب تخصيصات كبيرة لعلاج تداعياتها السلبية».
بانتظار الاجراءات الحقيقية
فيما يقول الطبيب الاختصاص في احد مستشفيات ذي قار، محيي الخرسان: أن محافظته تعد من أكثر المحافظات تضررا من الملوثات الكيماوية، ونتائجها باتت واضحة.
ويضيف الخرسان لـ«طريق الشعب»، أن «شباب المحافظة ناشدوا كثيرا وتم رصد وتوثيق حالات مرضية عديدة، خاصة في منطقة الخميسية التي استهدفت بالصواريخ في فترة التسعينيات، ما سبب تلوثا اشعاعياً في الهواء».
ويتهم الخرسان وزارة البيئة بالتلكؤ في عملها واجراءاتها «حيث لم نر أي اجراء حقيقي بالرغم من وجود تقارير وادلة على تضرر المنطقة».
ويكمل ان «المحافظة تحتوي على مركز للاورام، لكنه في الفترة الحالية اعتمد على العلاج بالإشعاع فقط»، مطالبا بأن تكون للحكومة وقفة جادة وحقيقية لمعالجة ملف الملوثات الكيميائية.
تدهور القطاع الصحي
يقول احمد الطيب (اختصاص في علم الكيمياء)، إن «حرق الغاز يحدث عندما تقوم شركات الوقود الأحفوري بإشعال غاز الميثان الفائض من عمليات النفط عوضا من حفظه في الأنابيب، وبالتالي يتجه نحو الغلاف الجوي. ويعد احد الغازات الدفيئة والأكثر تأثيرا بالاحترار العالمي من ثاني أكسيد الكربون على مدى فترة 20 عاما».
ويأتي العراق في المرتبة الثانية بين الدول التي تُسجل فيها أعلى مستويات لحرق الغاز في العالم، بعد روسيا.
ويشير الطيب في حديث مع «طريق الشعب»، الى أن «للغاز المحترق اضرارا لا تظهر نتائجها فورياً، انما تنتج مواد أسهمت في انتشار اللوكيميا»، متمنيا على الحكومة سن قوانين ولوائح صارمة لتقييد الحرق، بالإضافة الى بناء مجمعات سكنية بعيدة عن المدن الصناعية والإسراع في إنجاز المدن التي تعهدت الحكومة بانشائها».
ويبين الطيب، أن «القانون العراقي يحظر لأسباب صحية، حرق الغاز على بعد ستة أميال من منازل السكان، الا ان الواقع يشير الى عدم وجود التزام بهذه المادة، حيث تتواجد المنازل على مقربة من محارق الغاز»، مطالبا بتعويض المجتمعات المتضررة وتوفير الخدمات الصحية بشكل يليق بالمواطن العراقي.
واطلعت «طريق الشعب» على قانون الحفاظ على الثروة الهيدروكربونية رقم 84 لسنة 1985، الذي يؤكد على أهمية اتخاذ إجراءات تؤمن الحفاظ على البيئة وحماية وضمان سلامة الكوادر العاملة. ويشدد على ضرورة اتخاذ إجراءات لمنع الأضرار والمخاطر التي تهدد صحة وحياة الافراد، وتسهم في تلويث الهواء والمياه.
وكان جاسم الفلاحي، وكيل وزارة البيئة، قال إن التلوث الناتج عن إنتاج النفط يُعدّ السبب الرئيس لارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في البصرة. فيما قال لؤي الخطيب، وزير الكهرباء الأسبق، إن العمليات النفطية غير المنظمة في جنوب العراق و»الغازات السامة التي تُحرق في الهواء» مرتبطة بارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان.
يشار إلى أن الحكومة ملزمة بخفض انبعاثات غاز الميثان بنسبة 30 في المائة بحلول عام 2030. كما تعهدت بوقف جميع عمليات إحراق الغاز المصاحب بحلول عام 2022، واستثماره في تشغيل محطات توليد الكهرباء، غير أن وزارة البيئة قالت إن الموعد تم تأجيله إلى عام 2025.
تحذيرات من منتجات مسرطنة
من جانبه، يقول مدير قسم الملوثات الكيميائية في وزارة البيئة، لؤي المختار، إن «الكيمياء تدخل في كافة جوانب الحياة، منها تركيبة جسم الإنسان، وبالتالي يحتاج الإنسان لبعض المواد الموجودة في الطبيعة».
ويضيف المختار، ان «الخطر ينجم في حال زيادة النسب الكيميائية عن معدلاتها الطبيعية، وغالباً ما يسهم الإنسان في هذا الارتفاع».
ويبين لـ «طريق الشعب»، أن «المواد الكيميائية التي تسبب السرطان عددها محدود وفق الدراسات الأخيرة، ولها تأثيرات وأضرار مختلفة على أعضاء الجسم».
ويوضح لؤي، أن بعض المواد الكيميائية يمكن أن تكون خطرة على البيئة، سواء كانت موجودة بشكل طبيعي أم ناتجة عن الأنشطة البشرية، مشددًا على أهمية مراقبة تراكيز هذه المواد لتجنب التلوث والأضرار الصحية.
ويحذر من أن استهلاك المنتجات التي تحتوي على مواد كيميائية قد ينجم عنه مخاطر صحية وبيئية، مما يستدعي الحاجة إلى التوعية واتخاذ التدابير اللازمة للحد من هذه المخاطر.
وفي ختام حديثه، شدد المختار على أهمية تشريع القوانين التي تحافظ على البيئة، مؤكدا ان هناك رقابة ومتابعة للمواد الكيميائية المخزنة وضمان ابعادها عن المواطنين.