“كنت آمل أن أجد فرصتي في مدينتي الموصل، لكن بعد تخرجي خاب أملي بسبب التهميش وعدم الاهتمام من قبل الجهات المعنية. لذا قررت المغادرة عندما قال لي صديقي المقيم في السويد إنك موهوب، لمَ لا تحاول الهجرة إلى السويد.. هنا يهتمون بالفنانين والمبدعين؟”.
بهذه الكلمات يسرد الفنان التشكيلي الشاب علي محمد، في حديث صحفي، قصة هجرته إلى الخارج، شأن العديد من أقرانه الفنانين المتخرجين في كلية الفنون الجميلة بجامعة الموصل.
ويضيف محمد قائلا، أنه بعد التفكير في كلام صديقه، قرر السفر إلى السويد، وسافر، مبينا أنه في تلك البلاد بدأ يرسم لوحات ويبيعها “فكانت تجني لي كثيراً من الأموال.. كنت أبيع اللوحة الواحدة بسعر 30 لوحة في العراق”!
ولا يختلف اثنان حول خطورة هجرة العقول والكفاءات. فشأن هذا الموضوع شأن الأزمات الأخرى العاصفة في البلاد، والتي تعرقل دفع عجلة التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلى الأمام. وبسبب الظروف الاقتصادية والمعيشية والسياسية والأمنية الصعبة في العراق، اضطر الكثيرون من ذوي الكفاءات العلمية والثقافية والفنية، إلى الهجرة. وخلال الفترة التي أعقبت 2003، والتي شهدت توترا أمنيا حادا، وما تلاها في العام 2014 عند احتلال إرهاب داعش عددا من المحافظات.. خلال تلك الفترات هاجرت أعداد كبيرة من العراقيين إلى الخارج، بينها كفاءات في مختلف الاختصاصات.
وبالنسبة للموصل، يرى الموصليون أن هجرة العقول من أبناء مدينتهم، تعد خسارة كبيرة. إذ يساهم هؤلاء بخبراتهم في بناء اقتصادات بلدان المهجر، بينما يترك غيابهم ثغرات في البنيان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في مدينتهم الأم، التي تحاول التعافي من آثار الإرهاب والحرب.
وحسب مؤشر هجرة العقول ضمن تقرير لموقع “غلوبال إيكونامي” المتخصص في دراسة الآفاق الاقتصادية للبلدان، فإن العراق يحتل المرتبة الرابعة في قائمة بلدان العالم العربي، بهجرة العقول، بما نسبته 6.4 في المائة. فيما تشير دراسة لليونسكو، إلى هجرة نحو 10 آلاف اختصاصي من العراق سنويا، منهم في الهندسة والطب وغيرهما من حقول العلم، الأمر الذي ينعكس سلبا على مستوى تطور المجتمع وتقدم البلاد.
وبالعودة إلى محمد، فهو يؤكد أنه “في البيئة الجديدة، قمت بتطوير مهاراتي. فاتقنت الرسم بواسطة الأجهزة الإلكترونية واكتسبت كثيراً من المهارات، إلى أن تمكنت من فتح شركتي الخاصة لبيع اللوحات وتدريب الرسامين العراقيين المغتربين، مجانا”.
ولا يفكر محمد في العودة إلى العراق. إذ أنشأ لنفسه “حياة كريمة” في الدولة التي هاجر إليها، لكنه يأمل في العودة إلى الموصل يوما ما، شرط أن تتمكن الحكومة من احتضان الشباب أمثاله، ودعمهم في تقديم منجزهم الفني، قبل أن يتخذ مزيد منهم قرار الهجرة.
عدم الاستقرار
من جانبه يرى رئيس قسم بناء القدرات في “مركز بناء السلام والتعايش السلمي” بجامعة الموصل، وعد إبراهيم الخليل، أن هجرة العقول الموصلية مستمرة بنسب متفاوتة، منذ ما بعد 2003 وحتى اللحظة، مؤكداً في حديث صحفي أن “عدم الاستقرار من أكثر الأسباب التي تقلق العقول وتدفعها للهجرة”.
ويستذكر الخليل فترة ما بعد 2003 عندما تدهور الأمن وبدأت حمالات التهديد والاغتيالات تطاول الكفاءات، مبينا أنه “كلما كانت فرص السلم المجتمعي كبيرة في نينوى، كلما فتح المجال لإعادة بعض هذه العقول إلى مناطق سكناها”.
ويشير إلى أن “الكثير من هذه العقول أبدعت في مجال تخصصاتها في دول المهجر، بينما كان الأولى أن تبدع داخل وطنها، لتساهم في مسيرته العلمية، وتحدث طفرات نوعية في مجالات متعددة مثل الطب والهندسة والكهرباء وغيرها من التخصصات التي يحتاج إليها العراق بشكل كبير في المرحلة الراهنة”.
ويلفت الخليل إلى أن “الأزمات السياسية والنزاعات والحروب وفقدان الأمن وتردي الدخل، كلها دفعت العقول إلى الهجرة، يضاف إلى ذلك عدم تهيئة بيئة مناسبة تشجع على النجاح في الداخل، فضلا عن غياب الملاذ الآمن الذي يحمي الكفاءات من العنف واستهداف حرية الإبداع”.
ويتابع قوله: “أما على الجانب الآخر، فالدول المستقبلة للعمالة الأجنبية تقدم تسهيلات للكفاءات المهاجرة، ما يحفزها على الاستقرار هناك”، مشيرا إلى ان “عدم توافق السياسات التعليمية مع احتياجات التنمية، وضعف البحث العلمي وقلة الإمكانات المتاحة له، وتعقيد الإجراءات في الأجهزة الإدارية، وضعف المقدرة على اتخاذ القرارات، وتفشي الفساد، وعدم تقدير العلماء وتوفير الظروف المناسبة لهم، وغياب التخصصات التي تناسب مؤهلاتهم العلمية.. كل هذه العوامل لعبت دورا في زيادة أعداد المهاجرين من أصحاب الكفاءات”.
دعوات للحفاظ على ما تبقى
يرى مراقبون موصليون أن استمرار ظاهرة هجرة العقول يعد استنزافا لمقدرات المدينة، لما يخلفه ذلك من مشكلات، كتفشي الجهل والتطرف، داعين الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني إلى اتخاذ حلول مناسبة للحفاظ على ما تبقى من عقول.
ويلفت المراقبون، حسب ما نقلته وكالات أنباء، إلى أن الموصل خرجت من حرب طاحنة عام 2017 دمرت كل شيء، وهي الآن بأمسّ الحاجة إلى هذه الكفاءات لتنهض وتعود من جديد. فيما يقترحون تشريع قانون خاص بالكفاءات العلمية، على ألا يتعارض مع مبدأ حرية الانتقال والتعلم، ويحفظ على أقل تقدير أولوية الدفاع عن المصالح الاجتماعية التي ستهدر نتيجة تلك الهجرات النوعية. كما يقترحون تأسيس هيئة أو دائرة تعنى بشؤون الكفاءات العلمية المهاجرة، شرط أن ترتبط بوزارة الهجرة والمهجرين أو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أو وزارة الخارجية، مشددين على أهمية تحسين الظروف الاقتصادية والمالية للكفاءات، وتعزيز دور المراكز البحثية مع رصد ميزانية خاصة لها.
وفي السياق نفسه، يقترح الخليل تسليط الضوء على الكفاءات التي قررت العودة إلى العراق، من أجل تشجيع الآخرين على اتخاذ خطوات مماثلة.