اخر الاخبار

في كل مرة تعتدي فيها السلطة على الجسد، بوصفهِ مِلاكًا ينتمي لزمرة الأشياء التي يَطالها سوط السيادة العارية، فهي لا تُمارس عنفًا فرديًا - ويخطأ البعض بالظّن أنّهُ كذلك - إنّما هي تُعيد إنتاج نمطٍ تاريخيٍّ من القمعِ المؤسَّساتي المُمَأسس منذُ إرهاصات تأسيس الدولة العراقية وصولاً إلى حزب البعث، هذا النَّمط الذي جعلَ من إهانة الرموز التربويّة طقسًا لإعادة إنتاج الهيمنة. إن الدولة العراقية، وقد فشلت في إنتاج بنى عدالة اجتماعية أو ضمان كرامة المواطن، باتت تعتمد على عنفٍ مزدوج، ماديٍّ ورمزي، بوصفه أداةً لضبط الحقول الحيويّة للمجتمع، وأولها الحقل التعليمي، وهو مجالُ تشكيل الوعي الجَمعي.

لا أدنى من واجب يقع على عاتق النُّخب الثقافية والفكرية – من مثقفين، وأكاديميين، ونشطاء – أن يعملوا، بكل الوسائل المتاحة، على كسر الامتداد التاريخي المُدمِّر الذي ما برح يستبيح دماء العراقيين وكراماتهم: الامتداد المتجسِّد في منظومةٍ سلطويةٍ مُتوارثة، تضرب بجذورها تربة الاستبداد، منذ صدام. وهو نَسق السُّلطة المُمتَدَّة، الذي اعتاد انتهاك حرمة الجسد، وتصفية العقل، وتفكيك كل إمكانية لولادة وعيٍّ نقديٍّ جَماعي. وما أحوجنا اليوم إلى عالِم اجتماعٍ حَصيف، يمتلكُ أدوات التَّحليل والفِعل، يَنذِرُ جُهدَهُ لتفكيكِ هذا النَّسَق، وَتنميةِ وَعيٍّ شعبيٍّ قادر على مُجَابهته.

الدول السُّلطوية لا تكتفي بإقصاء المعلم اقتصاديًا أو تَهميشهُ اجتماعيًا - كما فعل صدام حين جعل الراتب الشهري 3000 دينار- بل تُمارس عليه عنفًا مُمَنهجًا لإفراغ دوره من أي مضمونٍ تحويليٍّ على مستوى الوعي الطَّبقي والسّياسي. فهو بالنسبة للدولة يجبُ أنْ يكونَ موظّفًا ومُعلِّمًا سُلطَويًا لا أكثر.

لم تَعُد الدَّولةُ تُخفي ازدراءها لكل ما يحمل إمكانية التَّنوير، هي دولة أدمنت إهانةَ كلِّ شيء: إهانة المعلم، إهانة المُثَقَّف، إهانة المُحتَج، إهانة الذاكرة، وحتّى إهانة اللُّغة ذاتها حين تُسخِّر الخطاب لتبرير القمع.

لذلك، فإننا لا نُدين حادثةً عابرة، بل نُدين بنيةً كاملة، تقف على قاعدتين: القمع والخوف. وكل من يحاول كسر هذه الثنائية يُواجَه بالعنف، لا بوصفه ردّ فعل، بل بوصفه جوهر الدولة ذاتها.

عرض مقالات: