يبدو المشهد ساكناً، لا هتاف يُسمع، ولا جموع تهدر في ساحة التحرير. طغمة الفساد غافية في وهم السيطرة، والمتنفذون يفسّرون الصمت على أنه إذعان، ويعتقدون أن الإحباط قد سيطر على الناس ودفعهم إلى الاستكانة والخضوع. لكنهم، كما في كل مرة، يخطئون فهم السكوت. فلا يرون ما تحته من وجع متراكم، وما في العيون من أسئلة مؤجلة، وما في القلوب من حمولة غضب لم يُفرغ بعد.
في العراق، حيث لم تجد المطالب المشروعة سوى الوعود المعلّقة، وإذ يتصاعد القمع في وجه كل احتجاج مؤثر، يصبح تراجع الأمل أمراً يومياً. وها ان مشهد قمع تظاهرة التربويين أمام مديرية التربية في الناصرية يوم امس الاول، ما زال شاخصاً في الذاكرة، بوصفه دليلاً على التصدي للصوت الصادق بالقسوة المعهودة.
لم يعد الاحتجاج مرئياً أو مدوّياً كما في السابق، بل بات يتخذ أشكالاً خافتة، لكنها لا تقل خطراً: انكفاء سياسي يُضعف شرعية النظام، امتناع واسع عن التصويت يكشف عن قطيعة صارخة بين الشعب وصندوق الاقتراع، ولامبالاة تسري كالعدوى، وانسحاب تام من المجال العام. حتى أصبح الإحباط ظاهرة جماعية لها طقوسها الصامتة وأغانيها التي لا تُقال.
حين تغيب الشعارات من الساحات، ويخفت صوت الهاتفين، يظنّ المتنفذون أنهم انتصروا. يتوهّمون أن الانكسار قد حلّ محل الغضب، وأن الناس طووا صفحة الاحتجاج. لكنهم – كما هو دأبهم – يخطئون قراءة الصمت. ففي البلدان التي جُرّحت أحلامها، يكون الصمت أحياناً احتجاجاً كذلك.. وأشد خطراً، وأعمق أثراً.
نحن إزاء ظاهرة اجتماعية عميقة: احتجاج بلا لافتات، بلا تظاهرات، بعيد عن الساحات، لكنه حاضر في كل تصرف فردي أو جماعي. من العزوف عن الانتخابات، إلى الانسحاب من النقاش العام، إلى الإعراض عن التظاهر، إلى إدارة الظهر للجهاز السياسي برمّته. فالصمت هنا ليس غياباً عن الفعل، بل هو شكل من أشكال المعارضة السلبية، التي يعبّر فيها الإنسان المهمّش عن رفضه بعد أن فقد الثقة بفعالية الأدوات المتاحة.
"الاحتجاج الصامت" فعلٌ سياسي غير معلن، نابع من قناعة متزايدة بأن أدوات التغيير القديمة قد استنفدت صلاحيتها. وهو أيضاً نتيجة مباشرة لانهيار المشترك الاجتماعي: حين تذبل النقابات، ويتقوقع نشاط قوى الإصلاح داخل المقرات، وتتحول المنظمات المدنية إلى واجهات شكلية، تغيب الوسائط الحيّة بين الناس والعمل العام، ويصبح الانكفاء رد فعل جماعيا. وفي هذه الفراغات، تسهل عودة الشعبوية والفاشية بخطاباتها السوداء.
الاحتجاج الصامت ليس مجرد موقف عابر، بل إدانة شاملة للنظام القائم، وصرخة مكتومة في وجه الخذلان. لكنه أيضاً لحظة هشّة، قد تتحوّل إلى انفجار أعمى إذا تُركت بلا تنظيم، وبلا قيادة تستمع وتبني. وهنا يُطرح السؤال المفصلي: من يسبق الآخر؟ وعي الجماهير بصمتها كأداة رفض؟ أم وعي الطغمة الحاكمة كون هذا الصمت اتهاما حادا لها، وليس حيادا ازاءهاا؟
الصمت الآن ليس موتاً، بل استراحة محارب. وحين ينهض ويتكلم، فلن يطلب الإذن، ولن يستخدم اللغة القديمة.
فهل تُحسن القوى الحيّة التقاط هذه اللحظة.. قبل أن تداهمها العاصفة؟