اخر الاخبار

في الذكرى التسعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، نتذكر تاريخاً يتسع لنشوء وتطور الحركة الوطنية العراقية كما لو أنه تاريخ وطن وشعب. لقد سبقت حركة التحرر الوطني في العراق وصول الماركسية إليه فكانت إحدى معضلات التأسيس ذلك الربط الحيوي بين النضال الطبقي ببعده الاجتماعي وقضية الاستقلال الوطني التي تتطلب توحيد كل قطاعات الشعب في النشاط السياسي. من هنا فقد بدأ يوسف سلمان (فهد) في بلورة أفكار يفتتح بها نمطاً جديداً من الكفاح الوطني بعد خمود ثورة العشرين مسترشداً بمقولات لينين حول مسألة التحرر الوطني في الشرق. وبرؤية ثاقبة وضع منهجاً حدد فيه أشكال النضال الطبقي والمهام المركزية للحزب مؤكداً على تلازم قضية التحرر الوطني والأهداف الاجتماعية وأهمية انغمار كل القوى الوطنية في عمل مشترك او جبهة عريضة فكانت توجيهاته لأعضاء الحزب وكوادره (أن قووا تنظيم حزبكم... قووا تنظيم الحركة الوطنية). وظل هذا الشعار ملازماً لنضال الحزب حتى الوقت الحاضر رغم كثير من الإخفاقات في هذه التحالفات عبر مسيرة النضال الوطني الطويلة. كانت مخاضات التأسيس عسيرة ففي مجتمع لا يشكل فيه الحضريون سوى نسبة قليلة 36 بالمائة احتلت فيها الطبقة المتوسطة 28 بالمائة منها. ونظام سياسي شكله الاحتلال بعد تجربة قاسية في أعقاب ثورة العشرين وسياسة ممنهجة لاحتواء العشائر والانتقال من العلاقات القبلية شبه المشاعية في الريف إلى علاقات جديدة تحول فيها الشيوخ إلى اقطاعيين وأبناء القبيلة إلى فلاحين أقنان في الأراضي المستقطعة للشيوخ في نمط من التحولات الرأسمالية.

في هذه الأجواء تشكلت الخلايا الأولى في المدن ابتداء من البصرة والناصرية ومن ثم بغداد، رافق ذلك انتعاش للحركة الثقافية استمر في وتيرة متصاعدة أصبح فيها الحزب الشيوعي حاضنة للثقافة والمثقفين، ومنحها صفة التقدمية التي لازمتها حتى الوقت الحاضر، خاصة وان الفكر الماركسي قد عم العالم بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا والرسالة التي وجهها لينين إلى شعوب الشرق والتي كشف فيها عن المخططات الاستعمارية لتقاسم النفوذ في مناطق متعددة من العالم وخاصة بلدان الشرق الغني بموارد الطاقة والمعادن.

لقد كانت مسيرة الحزب شاقة وكان الحلم بعراق ينهض بفردوسه يدفع أجيالاً من أعضائه ومثقفيه بالقبول بالثمن الباهظ الذي يقدمونه لأجل المستقبل.

ومما ساعد الحزب في تحديد أشكال النضال ما انتجته التقسيمات الطبقية الاجتماعية الجديدة التي تشكلت في مجرى التحولات الرأسمالية من صراعات جوهرها مطالب اجتماعية وسياسية. فقد ظهرت تنظيمات الفلاحين في مواجهة الإقطاع ونشاطات عمالية في مواجهة الرأسمال الأجنبي والمحلي وبرزت طبقة وسطى قادت الاحتجاجات والانتفاضات وظهرت أهمية رسم خارطة جديدة للقوى الاجتماعية الناهضة وتشكلت تنظيمات الفلاحين والعمال والطلبة والشباب والمرأة. وقدمت النخب الثقافية أكبر إنجازاتها المعرفية في استنهاض الوعي الوطني وكان الحزب في القلب من كل ذلك.

لقد تعرض الحزب خلال مسيرته الطويلة إلى سلسلة من الضربات في محاولة لأنهاء وجوده ودوره في الحياة السياسية ابتداء من إعدام قادته الخالدين فهد وحازم وصارم ومن الاستشهاد المروع للقائد الخالد سلام عادل ورفاقه بعد انقلاب شباط الدموي، وأخيراً محاولة التنكيل بالحزب قيادة وقاعدة وتشريد كوادره في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم.

وفي مواجهة ذلك اختار الحزب أشكالاً نضالية جديدة في مواجهة هذه المحاولات فكانت هناك انتقالات من أشكال النضال السلمي إلى الكفاح المسلح وإلى تبني أساليب جديدة في ضوء المتغيرات التي حصلت لاحقا.

لم تكن مسيرة الحزب خالية من الأخطاء أو التعرجات، ولا يمكن عزل ذلك عما حصل لليسار العالمي والأحزاب الشيوعية ومنها الحزب الشيوعي العراقي بعد انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، والذي أدى إلى تراجع وانحسار الأدوار السياسية لعموم الحركة الوطنية التقدمية، لكن صمود الحزب وعمق تجربته التاريخية وضعت الحزب أمام منعطفات تاريخية لاستعادة دوره بعد سقوط الدكتاتورية.

اليوم يواجه الحزب مهمات جديدة وهو يحتفظ برصيد شعبي وثقل سياسي مرموق خارج الحكم. يستطيع من خلالها أن يرسم ملامح جديدة للنضال وصياغة أفكار لتنشيط الفعاليات والاجتماعية في مواجهة التخريب الذي ينخر في جسد البلد وضياع فرص التنمية وانتشار الفساد والبيروقراطية جراء الفوضى والتخبط في السياسة الاقتصادية وتابعيته العولمة الرأسمالية.

إن تطوير أساليب النضال ووضع أطر مؤسساتية ترتكز إلى مقاربة فكرية وسياسية لم تكن بعيدة عن نهج الحزب ومتبنياته في توحيد صفوف الحركة الوطنية مستعينا بتلك الصورة النبيلة التي ظل العراقيون يحملونها للشيوعيين من قيم النزاهة والكفاءة والاستقامة والتضحية.

لقد خاض الحزب مع قوى ديمقراطية نضالاً واسعاً في عام 2011 وحتى انطلاق ثورة تشرين المجيدة واستقطب فيها قطاعات اجتماعية مختلفة وهو اليوم قادر على أخذ زمام المبادرة من جديد.

إن الذكرى التسعين لتأسيس الحزب تعيد للشيوعيين وأصدقائهم ذلك التاريخ المجيد الذي تصدر فيه الحزب نضالات العراقيين وقدم آلاف الشهداء من خيرة أعضائه من أجل حياة أفضل للعراقيين وتحقيق طموحاتهم وأحلامهم في الحرية والاستقلال والبناء والتنمية مقدمين صورة ناصعة لنضال نزيه رافق مسيرتهم الكبيرة في ماضيها وحاضرها.

وفي هذه المناسبة نقف إجلالاً لذكرى آلاف من شهداء الحزب قادة وأعضاء ومناصرين الذين وقفوا بشموخ بوجه الطغيان في مختلف المراحل وضحوا بأنفسهم من أجل حرية الوطن وسعادة الشعب.

عرض مقالات: