يعد الفنان طالب مكي من جيل ما بعد الريادات الفنية الذي سجل براعته الكبيرة في حقلي الرسم والنحت في ضوء منجزه العياني المتحقق وتلمذته على يدي كبار أساتذة الفن (فائق حسن وجواد سليم) عند دخوله معهد الفنون الجميلة بارادة ملكية عام 1952. تلك المثابات الأولى التي لفتت اليه انتباه القائمين على الفعل الثقافي، إذ استدعاه حينذاك جبرا ابراهيم جبرا للعمل رساما في مجلة (العاملون في النفط) وهي مجلة فنية أدبية تصدرها شركة النفظ البريطانية وعمله اللاحق في المجلات الثقافية العراقية (الأقلام، وألف باء) وغيرها. وقد بقي طالب مكي يتمترس داخل الفن ومنتجاته الثقافية من الصحف والمجلات والمعارض، ولم يك بعيدا عن ادارة وجهة الفن التي اعتنقتها الجماعات الفنية بما يسهم في اغناء المشهد التشكيلي العراقي، فإنضوى تحت جماعة المجددين وشارك في معارضها الخمسة (1965- 1968) في ضوء نظرته المتجددة للفن وما يجب ان تكون الصياغة الفنية المرتبطة بالفكرة وعلاقتها بالنظم الاجتماعية وتحولات تلك البنى أنذاك، ليتسق البحث البصري مع بحث الذات الجمعية عن خلاصها ويضحو الفن معادلا موضوعيا لتلك السيرورة الاجتماعية. الا أنه سجل اختلافه ومغايرته منذ اللحظة الأولى، حيث كان ينطق بصمت بليغ ويوصل أفكاره من خلال الصورة المرسومة أو العمل النحتي، بفعل خصائصه البايولوجية المعروفة، وضمن هذه التوصيفات قدم اعمالا نحتية ونصبا في ساحات بغداد وأقام معارضا شخصية لفنه توجت بمعرض استعادي لأعماله الفنية عام 2006 وآخر لمختارات منها عام 2008، وظل يسير بخطى متوازنة - قل نظيرها في الفن- بين الرسم والنحت ورسوم الأطفال، ينتج ويبدع دون أدنى انحياز لجنس فني دون آخر.
بيد أن طالب مكي الذي لم يخرج من براءة الطفولة ونقاءها استهواه العمل في دار ثقافة الأطفال عند تأسيسها عام 1969 وأضحى عراب منشوراتها الأول مع سرب جمالي محلق في سماوات هذا الفن الابداعي، وكانت ولا زالت (مجلتي والمزمار، وسندباد بغداد) مرجعا مهما في رسوم الأطفال على مستوى أغلفة هذه المجلات التي تتسق موضوعات أغلفتها مع المتون الداخلية من أجل وحدة موضوعية يحملها المطبوع. ومن أجل الوصول الى دائرة تلقي واسعة تتجاوز المراحل العمرية التي تتقصدها هذه المنشورات لتصل الى فئات أدمنت التواصل مع ما ينشر في هذه الدار تم اصطفاء موضوعات من الثراث والحياة مدخلا أساسيا ومنهجا لهذا العمل. ولعل من اسباب هذه السعة في الانتشار هو الاخلاص في العمل وبذرة التفاني التي يحملها (مكي) وزملاءه لتطوير العمل الفني واتخاذه مديات كبيرة، فضلا عن تطوير آليات الاشتغال والتقنيات المستخدمة التي تقترب من صدق اللحظة التسجيلية للواقعة، بما تتوافر عليه القصص التأريخية ومرويات الذاكرة البغدادية والعراقية بشكل عام وتوثيقها عن طريق الصورة التوضيحية وتحويل الشفاهي الى خطاب مرئي يمتلك خصائصه الجمالية ضمن منظومة لونية تتواءم مع الحدث والواقعة التأريخية وتمتلك عوامل جذب كبرى يستطيع المتلقي من كل الفئات العمرية التفاعل معها والاحساس بها. فكانت قصص ألف ليلة وليلة والحكايا الشعبية أساسا في هذا التصير الجمالي، ولا زالت الذاكرة الجمعية العراقية تتداول سيرة أبطال تلك الحكايا لفاعلية الصورة المتقنة بالرسم والتي تلامس ملامح الشخصية الحقيقية التي تسردها الحكاية، فضلا عن العروج الى المدونات التأريخية وتثويرها بما يتلاءم وعناوين الشرف والبطولة التي يجب أن تتربى عليها الأجيال كجزء من التعريف بالتراث العربي والعراقي والاحتفاء بعلماء هذا الوطن ومبدعيه على مختلف الأصعدة.
وعبر هذه المسيرة التي أخلص فيها لهذا الجنس الفني (رسوم الأطفال) أنجز عددا كبيرا من الأغلفة بوصفها عتبات يمكن الولوج من خلالها لمحتوى داخلي، فضلا عن السلاسل المصورة وكتب الأطفال والملصقات. ولم يكن نتاجه حبيس دار ثقافة الأطفال، بل تجاوز ذلك بكثير، حيث أقام لفنه معارض شخصية ومشاركته في معارض جماعية، حتى توج هذا الجهد الابداعي بحصوله على الجائزة التشجيعية للثقافة العربية عام 1985 في تونس لكتابيه (ابو بكر الرازي، وآشور بانيبال) وتم تكريمه مؤخرا من دارثقافة الأطفال التي عمل فيها حتى أواخر حياته ودرب فيها عددا كبيرا من أهم فناني هذه الدار ونظمت عام 2008 مسابقة (طالب مكي لرسوم الأطفال).