اخر الاخبار

الحديث عن جواد سليم يعني الحديث عن مشهدية التشكيل العراقي المعاصر بوصفه عرابا لحركة التحديث وقائدا لأهم الجماعات الفنية (جماعة بغداد للفن الحديث 1951) التي اتسمت بالمنطق المجموعي في فلسفة رؤيتها لعلاقة الفن  بالحياة، فضلا عن الخصائص الذاتية التي تميز بها جواد المرتبطة بالموهبة والوثوب الى امام من اجل الفعل الجمالي المفارق. بيد أن الظروف الموضوعية في تشكل تجربته لا يمكن اهمالها، اذ ان الهجرة من اسطنبول الى بغداد ومشاهداته المبكرة شكلت أساسا لما نتج عنه فيما بعد وعائلته الفنية ووالده الحاج سليم الرسام وجماعته من الضباط كان لهم الأثر الكبير في نمو ورسوخ التجربة الجمالية لديه.

وانطلاقا من كل هذا حاول جواد التعرف على التراث العراقي القديم لوجوده في المتحف العراقي وتمعن طويلا في المسلات السومرية والآشورية ومن ثم قلب أوراق الواسطي ومجمل منجز مدرسة بغداد للتصوير، ولذلك كانت رؤيته التحديثية في النحت تسير بالتوازي مع رؤاه في الرسم وأضحى عرابا لاتجاهين مختلفين في الآليات والتقنيات الانشائية وابدع فيهما معا وهو ما يميز ذلك المنجز. ولكن هذا لم يكن اذا لم يتعرف على آفاق الحداثة التي تعملها في مدن العالم المنتجة والراعية لخطاب الحداثة مثل (باريس ولندن) واقام جسورا عالية ومتينة بين تلك الاصول العراقية وبين افق الحداثة لينتج خطاباته النحتية والرسموية على السواء على وفق هذا المنظور، بدءا من تزعمه جماعة بغداد للفن الحديث والتزاماتها المحلية التي أسست للنواة الأولى في البحث عن هوية للفن العراقي أو ظلال للهوية على اقل تقدير، وقد تحقق هذا بمجهودات اخرين فردانية أو من خلال ظهور الجماعات الفنية اللاحقة. وكانت جدوى البحث المخلصة والجادة لدى جواد ورؤيته الاستشرافية تحقق عنها (نصب الحرية) وسط بغداد يتماهى مع طبيعة الحدث اليومي في ضوء المقاطع الصورية في أجزاء من النصب وتماثلها مع صور من واقعة حدثية آنية ومعاصرة، فضلا عن السياق التأريخي الذي يتضمنه النصب في قراءة عيانية توثق عن طريق مدونة بصرية لنضال الشعب العراقي المستمر من اجل الحرية ونزوعه للخلاص من التسلط. وأن نصب الحرية هو خلاصة لكل ما أنجزه جواد على صعيد النحت من أعمال نصبية تنتمي الى النحت المدور، اذ كانت موضوعاتها تقترن بمضامين افاريز نصب الحرية مثل (السجين السياسي، الامومة، البناء) وغيرها، وصولا الى مضامين الرسموية الذي تم التركيز فيها على الموضوع العراقي المحلي سواء كان سياسيا أو انعكاسا لمنظومة التفكير الاجتماعي كما في أعماله البغداديات أو (الشجرة القتيلة) التي كرست نضالات الانسان العراقي ونزوعه الترميزي الكبير الحامل لدلالة التعبير عن مساواة الفرد بالبناء الاجتماعي وتماهي تلك الذات المفردة في الذات الجمعية لتشكل كلا الآمال أو النظر لفاعلية تلك الذات.

ولم يعد النظر الى طبيعة الفن ودوره وآليات تشكلاته تعتمد فقط على ما هو عراقي واسلامي، بل كانت مرجعيات متعددة تتحكم بتحولاته الاسلوبية وتعديل المسار أو تصحيحه ان كان يتجه بخلاف ما يريد، ليضحو هذا التصحيح منعرجا جديدا واضافة نوعية في تجربته الفنية وفي واحدة من تلك المرجعيات تأثره بالفنانين البولونيين الوافدين للتدريس في معهد الفنون الجميلة ببغداد بعد الحرب العالمية الثانية واعترافه بهذا التأثير واستيعابة اثر اللون وطاقته التعبيرية العالية التي حاول الأخذ بها ومزجها بمشاهداته لأوراق الواسطي عندما تم تقليبها من قبل، وحاول تكريس اسلوبه من خلال التفاعل مع كل الموارد المتأتية من جهات متعددة لينتج عن تجربته اسلوبا متفردا في الاشتغال وخطابا جماليا سار على خطاه آخرون حتى اسماهم البعض (جواديون في الرسم العراقي) بفعل التأثير الكبير لتجربة جواد فيهم وتلقف أثره بالمعنى العام على الرغم من الاسلوبية المختلفة لكل منهم. 

ولعل أطر البحث المستديم لدى جواد، فضلا عن الظروف الموضوعية المحيطة أدت الى توغله في مضمار التصميم، اذ أنجز مع زملاءه (فائق حسن، وحافظ الدروبي) العديد من تصاميم شعارات المؤسسات العراقية والملصقات الفنية وطوابع البريد وغيرها، وتميز فيها مثلما تميز في النحت والرسم عندما صمم شعارات (الجمهورية العراقية، مصلحة نقل الركاب) وواجهة المصرف الزراعي من النحت البارز وغيرها. بيد أن التجربة التي لم تلاحق بشكل جدي هي المحاولات النقدية التشكيلية لدى جواد بموازاة اضاءات ما حققه في حقلي (النحت والرسم) وظلت هذه المحاولات خافية عن البعض، اذ أوجزها في فصل مطول (جبرا ابراهيم جبرا) في كتابه (الرحلة الثامنة) وتتمثل في شقيها التنظيري التأملي في المشهد التشكيلي العراقي ومنجزه الفرداني، أو على شكل تقديم ممارسة نقدية على بعض الأعمال الفنية والظواهر التشكيلية العراقية، وهذا ما يؤسس بشكل حقيقي لنقد تشكيلي حقيقي تضامنا مع ما أنجزه (جبرا ابراهيم جبرا) في هذا الخصوص أو جماعة بغداد للفن الحديث من شعراء وروائيين وممعماريين تم انضواؤهم تحت خيمة الجماعة وقدموا قراءاتهم النقدية لأعمالها  ومن ثم اتسعت لتشمل الجهد الجمالي في التشكيل العراقي وصولا الى خطاب متزن ومتماسك اسهم في صياغته نقاد تمرسوا الكتابة النقدية وتعرفوا جيدا على مناهج النقد. ومن هنا تظل تجربة جواد سليم القصيرة في الحساب الزمني الفعلي وعقودها الأربعة كبيرة في تحقيقها الكثير من الظلال التي يمكن أن يتفيأ بها هذا المشهد على صعيد الرسم والنحت والأثر الجمالي الكبير. وعند مراجعتنا الدائمة لمنجزه سنكتشف الجديد المسكوت عنه والقابل لاضاءات ممكنة في الحاضر أو في المستقبل القريب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد وفنان تشكيلي واكاديمي عراقي

عرض مقالات: