بعد مرور عامين على الاحتجاج المطلبي للقوى الشعبية والوطنية التي يتقدمها الشباب يمكننا قراءة المشهد بمجمل تجلياته بشكل تأملي مختلف بعيدا عن التشويش الذي يرافق محطاته الأولى.
لقد أضحت المتغيرات واضحة أزاء هذا الحراك ومعروفة لدى الجميع ويمكن الحكم عليها سلبا أو ايجابا. ومن خلال هذا الفهم يمكن رصد مواءمة حركة التشكيل لفعل الاحتجاج منذ لحظته الأولى، بفعل عوامل متعددة يقع في مقدمتها (الانتماء الاجتماعي) بمفهومه العمري كون هؤلاء المحتجين أغلبهم من الشباب والطلبة وفيهم من الفنانين الكثير، مما برر لحاجة هذا الفعل الى اعلام مرافق يتجاوز الاعلام التقليدي الذي يعرض في شبكات التواصل الاجتماعي وبعض القنوات المتضامنة وابراز مناطق القوة في ثورة تشرين امام القنوات الحزبية التي تريد النيل من هذه الحركة لتبرير وجودها على المشهد السياسي العراقي.
هناك عوامل أخرى كانت تشي بأشياء ناتجة عن الارث التراكمي للفعل الاحتجاجي ورمزية المكان (ساحة التحرير) ونصبها الخالد (نصب الحرية)، اذ كانت هذه الرمزية دافعا كبيرا أسهم في دفع التواصل الفني والاسراع في انجاز الكثير من المعطيات، اولها فكرة الاحتجاج والنزوع نحو الحرية وتحطيم القيود والخلاص منها، بوصفها ثيمة رئيسية في نصب الحرية، بما انتج صورا واقعية تحت النصب شكلتها صور المحتجين مقارنة بالصورة المتخيلة لفنان النصب (جواد سليم). وهكذا كانت المناطق القريبة من النصب ملاذا لهؤلاء الفنانين بمختلف مستوياتهم وأداءهم الفني للتعبير عن تلك التجربة التي ترتبط بحركة الاحتجاج العراقي والعالمي في مختلف ازمنتها. بيد أن معطيات المرحلة وتطور انساق الاحتجاج جاءت بالجديد، بدءا من استثمار رمزية النصب الموجودة في بغداد أولا مثل (نصب الحرية، ونصب الشهيد والسجين السياسي، والامومة ) وغيرها من النصب ذات المعطى المرتبط بفعالية الثورة والتضحيات التي تقدم على طريقها من اجل الحرية.
وهكذا كانت اللحظة الأولى هي التعبير عن التضامن وتثوير شعارات المرحلة بشكل عفوي على تلك الجدران الكونكريتية في المناطق المجاورة لساحة التحرير مثل نفق التحرير والمطعم التركي وغيرها. وسرعان ما تطور هذا الفعل الجمالي في بنيته التحريضية والتهكمية من قوى السلطة وتشبث المحتجين بمقاصدهم النبيلة، وأزاء تطور الأحداث على الأرض تطور الفعل الفني الموازي. فبعد سقوط الشهداء واستخدام آلة العنف تغيرت معادلة الفن بعد دخول اطراف متعددة على المعادلة من فنانين محترفين واساتذة فن مما جعل هذه الخطوة تسير نحو مثابات تأملية جديدة تتجاوز التعبير الفطري للظاهرة وتحفر في مرجعيات (الفن الكرافيتي) وتأريخه الاحتجاجي الطويل وموضوعاته المعروفة. غير أن اللحظة العراقية الراهنة استطاعت أن تؤسس لفن محلي ينتمي الى جوهر هذا الفن من خلال ظلال الهوية الوطنية التي اصطبغت بها تلك الأعمال الفنية بفعل الدلالة المحلية القائمة على البنية المكانية المحددة (بنيتي الزمان والمكان - بغداد 2019) ، فضلا عن رمزية المكان (نصب الحرية، المطعم التركي) واستحضار مرمزات عراقية قديمة ومعاصرة في الأعمال الفنية مثل (نصب الشهيد واسد بابل، والثور المجنح) وغيرها من المفردات الشعبية التي عجت بها كتابات نفق التحرير والأماكن المجاور، فضلا عن اسماء الشهداء الذين سقطوا في هذه الرقعة المكانية، لتصبح تلك الأسماء وردة كبيرة بالخط السنبلي بلون الذهب على جدار النفق.
وبتطور حالة الاحتجاج وتعدد اساليب القمع واستمراره في الوقت نفسه تجلت عبر ذلك ايقونات معمارية وانسانية اندمجت مع التأملات الفنية وأضحت جزءا مهما منها، اذ تردد كثيرا ما يدعى جبل أحد اشارة الى صمود الشباب في المطعم التركي، او ايقونة الشهادة (صفاء السراي) الذي تناوله العديد من الفنانين في اعمالهم على مستوى الترميز او المستوى المباشر برسم الصورة الايقونية الواقعية.
وبدخول عناصر جديدة الى ساحة الاحتجاج تم توظيفها في العمل الفني لتصبح مفردة تضاف الى المفردات المعبرة عن روح الاحتجاج وجوهره مثل عجلة النقل (التك تك) مما جعل اثرها يستمر بعد تقويض زخم الاحتجاج لتنتقل الى المسرح او خطاب التشكيل العراقي خارج مناطق الاحتجاج االفعلي. وقد ذهب فنانون اخرون الى المزاوجة بين الأثر القديم والحديث في لحظة تجلٍ واحدة تؤشر للارتباط الحاصل في التاريخ العراقي بمختلف مراحله، ومحاولة استدراج الرمز الشعبي الى مناطق التوصلات الجمالية المتعالية كما فعلت جمعية التشكيليين العراقيين في سمبوزيوم للرسم عام 2019 بعد استمرار الفعل الاحتجاجي، فضلا عن انتقال هذه الممارسة الرافضة لقمع السلطة الحاكمة الى اماكن اخرى من العاصمة ومدن أخرى تبدت بشكل كبير في محافظات (البصرة، النجف، كربلاء، بابل، الناصرية) من خلال الالتفات الى اهمية الفن المنتج وتبني اللحظة التاريخية الراهنة انطلاقا من قناعة تدعو الى تكاملية الفعل الاحتجاجي الرافض للممارسات القمعية وشرعنة الفساد والعمل الفني من جهة ثانية. وتكون اللوحة بهذه الحالة وثيقة ادانة ورفض ومدونة تاريخية تشي بما حدث.
ولكن بعد تقويض فعالية الاحتجاج بالطرق المعروفة للجميع توقفت المجريات الفنية المرافقة أيضا، الا ان الكثير من الدراسات والبحوث الآن تشير الى هذه الظاهرة المختلفة والتي أضحت اضافة نوعية لمشهدية التشكيل العراقي لم تكن موجودة سابقا، تمكنت من تثوير المفردة التهكمية على الرغم من القسوة وتفعيل الصلة بين الفن والممارسة الاحتجاجية كونها تجاوزت الفعل الفرداني الى الظاهرة الجمعية التي يتم فحصها باستمرار.